مشهد 1: ليل خارجي – شارع ضيق خلف حانة
يقول له دون أدنى أسف: إنت عرفت أكتر من اللازم، ثم يرديه قتيلا برصاصة بدم بارد، ليسيل دمه الساخن.
قطع
مشهد كليشيه في أغلب أفلام العصابات ضحيته هذا المسكين الذي سعى في المعرفة، ولكن هذا المشهد لا يحدث فعليا في الواقع بتلك الفجاجة المباشرة، ولكنه يحدث بطرق أخرى متعددة الأنماط وربما أكثر درامية، وليست بهذا الوضوح، لكنها ربما أكثر حدة ودون قطرة دماء.
يسعى الناس للمعرفة على الدوام، ويبدو أن اﻹنسان كائن يحب أن يعرف، وكما عرفّه السابقون: حيوان له تاريخ. والتاريخ هو معرفة قصص الأولين وأحداث أزمنة ولت للاستفادة منها مستقبلا، حتى إن اﻹنسان حاول استشراف المستقبل سواء بالدجل (وشوشة الودع، فتح المندل) أو بعلم الفلك ودراسة العلامات الفلكية وما يوازيها من علوم مبتدعة (قراءة الكف، الفنجان) أو بتدارس الكتب السماوية ودراسة تفاسيرها، وبدا ذلك في كتابات الإنسان بداية من جدران المعابد وحتى الروايات الخيالية، إنه شغف المعرفة.
المعرفة نور، وهكذا عرفوها في صورة العلم، فكل معلومة هي بمثابة آفاق جديدة تفتح لك مدارك لا متناهية من المعارف، وإن صادفت معلومتين مرتبطتين يفتحان لك أفقا أبرح، وإن ناقشت آخر ذا معرفة تفتح آفاقا أوسع، حتى تصل لأقصى ما تستطيع، مع إدراك أن لا نهاية لهذا الدرب.
مشهد 2: نهار داخلي – لجنة إمتحان
ألقى الدكتور للطالب بمعلومة لطيفة في إختبار شفهي، قبل أن يوجه له طعنة نافذة في صورة سؤال: تعلم أن أغلب من قُتلوا أو قَتلوا أنفسهم، كان ذلك بسبب الشغف للمعرفة.. اخبر الأساتذة بما تعرفه في ظل العبارة السابقة عن الآتية أسمائهم: \”إسحق نيوتن – سميرة موسى – ماري كوري – وان هو – فرانز ريتشيلت\”
رد الطالب بثقة لا تقبل الشك: أعرف أن جمال حمدان قُتل بسبب شغفه لنقل المعرفة.
قطع
إن عرفت أكثر تصبح رؤيتك أعمق وأوضح، تتسع مداركك، تناقش أكثر، يزيد الجدل، تنقلها ﻵخرين، حتى تصل لمعلومة يحبذ أحدهم عدم انتشارها، ﻷن نشرها قد يؤدي ﻹفشال مخططاته تلك، والتي أعدها من أجل الاستيلاء على أرواح ما، وذلك ما تقوم على أساسه كافة الديكتاتوريات بداية من محاولة الرجل للسيطرة على أبنائه، مرورا بالسيطرة على كشك سجائر أو شركة أو مؤسسة، حتى السيطرة على الدول.
السيطرة في عمومها -وخاصة المعتمدة على الديكتاتورية- تتم بإحدى طريقتين أغلبنا خبرناهما بشكل ما، ويتفاوت فهمنا واستيعابنا لهما طبقا لمقدار معرفتنا التي تشكل إطار هذا الفهم، والذي يتراوح ما بين الفكرة السطحية والفهم العميق للمغزى، فلا يصطف الناس سوى في حالتين، أثناء الصلاة بأشكالها وعلى جبهة القتال بأنواعه، فيماعدا ذلك فإن الاختلاف وعدم الإصطفاف رحمة كي لا نشابه القطعان، وتفاوت المعرفة ضرورة، لكن هناك ضرورة أكبر لتحلي الشعوب ولو بالحد الأدنى منها عند كل شخص كالقراءة -ولو بشكل إجباري مقنن- وهذا أساس حقيقي ﻷغلب ما نادت به الثورات كافة، وما حلم به أغلب ثوار الأرض الداعين دوما لأهمية التغيير.
مشهد 3: نهار خارجي – كُتّاب في الريف
سألت الطفلة التي تجلس في الصف الأول المُطوّع سؤالا، دون تحفظ وببراءة متناهية: إيه مصير الحيوانات في الجنة يا مولانا؟
فلاش باك أبيض وأسود تهمس الطفلة في أذن قطتها بحنان: تعرفي إني بحبك أكتر من أختي.. هُشششش
يجيبها المطوع: ما ألطف أن تتيمم بتراب في الجنة.. كان يوما ما حيوانا وديعا مستأنسا يأكل ويشرب ويضاجع ويأوي لكومة تبن ينام فوقها آخر اليوم داخل زريبة.
قطع
هل تتخيل أن جاهلا قد يترك كيلو من اللحم بحثا عن ميزان لعدالة اجتماعية، أو يترك جناح دجاجة من أجل إطلاق عصفور من قفص ليرفرف بأجنحة الحرية؟
هل سمعت عن شقي يسعى ويطوف في دائرته ليل نهار، استطاع أن يرشف ولو قطرة من شربة من كوب مما تنتجه تلك الساقية المربوط إليها ليل نهار كثور مغمض العينين عن الحقيقة حتى تخور قواه؟ رشفة ترضيه وتُعّلم في عقله وتعلق فيه؟ رغم أن الساقية تنتج شلالات منهرة من المياه.. رشفة تروي بحق. هذا هو المستحيل الخامس.
بدون المعرفة الإنسان قشة لا تنقذ غريقا من تلك الشلالات، الإنسان نسمة صيف حارة حارقة في ظهر أغسطس، الإنسان حشرة تحط على أي كائن حي فتمرضه، والإنسان كوب قابل للكسر نصفه فارغ والنصف اﻵخر خال.. هو روح بلا عقل وعاطفة خارجة عن نطاق السيطرة.. مجرد أهواء متلاطمة يسعها الكون المحيط، لكن آفاقها محيط قفص صدري محسوب اﻷنفاس.. يجاور قلبا مبحوح النبضات.
مشهد 4: نهار خارجي – نيودلهي
وقف ﺟﻮﺍﻫﺮ ﻻﻝ ﻧﻬﺮﻭ ﺃﻭﻝ ﺭﺋﻴﺲ ﻭﺯﺭﺍﺀ -ﻷكثر دولة تحوي الجهل واﻷمية وقتها- الهند، ﺑﻌﺪ ﺍﻻﺳﺘﻘﻼﻝ قائلا للجموع بصدق:
\”ﺍﻟﻌلم ﻭﺣﺪﻩ ﻫﻮ ﺍﻟﻘﺎﺩر على ﺣﻞ ﻣﺸﻜﻼﺕ الجوع ﻭﺍﻟﻔﻘﺮ ﻭﺍﻟﻤﺮﺽ والجهل، ﻭﺍﻟﺨﺮﺍﻓﺎﺕ ﻭﺍﻟﻌﺎﺩﺍﺕ ﻭﺍﻟﺘﻘﺎﻟﻴﺪ ﺍﻟﺒﺎﻟﻴﺔ ﻭﺍﻟﺜﺮﻭﺍﺕ الآيلة للنضوب\”
لم تصفق الجموع وقتها، لكنهم يصفقون الآن.
قطع