عادة ما تكون مقدمات ومظاهر الانقلاب العسكري متشابهة.
أزمة اقتصادية مفتعلة.. نقص عن عمد في الاحتياجات الأساسية.. طوابير وقود وأسطوانات بوتجاز.. انقطاع مستمر للتيار الكهربائي.. مظاهرات مسموح بها من قبل العسكريين.. إعلام يقوم بشحن الجماهير للتحرك ضد الرئيس.
يستجيب الشعب المشحون ليملأ الشوارع، ثم يتدخل الجيش بدعوى إنقاذ البلاد من أزمتها، وأن أي خروج على الحكم العسكري يعتبر تأخر وضياع للبلاد.
في مارس 1964 كان هذا هو السيناريو الذي حدث في البرازيل ضد الرئيس المنتخب جواو جولارت بقيادة المارشال كاستيلو برانكو.
خرج البرازيليون بدعم من الجيش في مظاهرات، تم دفعها وتحريكها بواسطة رجال الأعمال، وبمباركة الكنيسة، مطالبين بتدخل القوات المسلحة ضد \”جولارت\”، في مظاهرات عُرفت بـ \”المظاهرات العائلية مع الرب\”.
ألقى جولارت في مارس 1964م خطابًا دعا فيه إلى إجراء إصلاحات هيكلية وتأميم أرباح الشركات البرازيلية الكبرى لصالح الفقراء، وذهب إلى قادة الجيش طالبًا دعمهم، ظنًا منه أن الجيش سوف يدعمه، ولكن بلا جدوى.
في 25 مارس 1964 تمرد 200 ضابط من الجيش مؤيدين للرئيس جولارت، واعتصموا في قاعدة بحرية لتنفيذ مطالبهم بمناصرة إصلاحات جولارت.
لم يمض الكثير من الوقت حتى نجحت المفاوضات في إخراج هؤلاء المعتصمين، ليتم القبض عليهم بتهمة العصيان، مما دفع بشعبية جولارت إلى الأرض، وظهر أنه في الجانب الخاسر.
خرج الطلاب في تظاهرات كبيرة، ولكن المارشال استطاع قمعها.. اعتقل الآلاف وقتل آخرين واختفى البعض الآخر.
نجح الانقلاب واستولى الجيش على السلطة لمدة 21 عاما، بقيت البلاد خلالها في حالة الطوارئ، واعتمدت سياسة لا تعرف الرحمة ولا التساهل إزاء كل من يعارضون سياسة النظام العسكري.
كان هناك نقاش حول إذا كان ما حدث في البرازيل ثورة أم انقلابا، أطلق الجيش البرازيلي على ما حدث ثورة 1964، وصرح كاستيلو برانكو بوعد أنه غير طامع في السلطة، ولن يقوم بالترشح للرئاسة.
لم يمر سوى أحد عشر يومًا من هذا الوعد، حتى ضرب برانكو بوعوده عرض الحائط، وترشح للمنصب في 11 إبريل 1964.
انتخب الكونجرس البرازيلي المارشال \”برانكو\” رئيسًا للبلاد.
بعد انتهاء مدة رئاسة الجنرال برانكو عام 1967، تولى المنصب وزير دفاعه الأكثر منه قمعا الجنرال \”أتور دا كوستا إي سيلفا\”.
وهكذا تعاقب الحكام العسكريين على حكم البرازيل.
مر الحكم العسكري بعدة مراحل، من قمع، اغتيال، تعذيب، اعتقال، ومنع للمعارضة.
وبدأت حكومة \”الثورة\” -كما أطلق عليه مؤيدوها- في إلغاء تعددية الأحزاب السياسية، وإعلان دستور جديد للبلاد، وقمع الحركات الطلابية والشعبية.
تعمد إعلام رجال الأعمال المدعوم عسكريا، توجيه أنظار شعب البرازيل لكرة القدم.
أنصرف البرازيليون عن السياسة وتابعوا كرة القدم بتقدم وفوز منتخب البرازيل في تصفيات كأس العالم، ثم الفوز ببطولة كأس العالم 1970، وتمزقت المعارضة وسط القمع واختفاء الظهير الشعبي واختلاف الأحزاب بعضها مع بعض، وفيما بينها.
خلال تلك الفترة تبنت الحكومات العسكرية سياسات رأسمالية دافعت فيها عن مصالح رجال الأعمال وأصحاب الشركات، دون الاكتراث نهائيا بالطبقات الفقيرة، وكان لابد من وجود عدو ومؤامرة خارجية يتم بها إخراس الداخل، فتقمص الجيش دور حامي البلاد من الوقوع في خطر الشيوعية، وتكرار النموذج الكوبي.
فشل العسكريون في إدارة الاقتصاد، فعمد المجلس العسكري إلى الاقتراض من الخارج لتنفيذ مشروعاته التنموية الواهية تحت رعاية الجيش، مما خلّف ديونا وأزمات اقتصادية كبيرة، شكلت عبئا على الأجيال اللاحقة.
لم يستطيع الجيش تحقيق أي أرباح اقتصادية لنفسه، ولم يستطع حتى أن يخدم شعبه، فكان لابد من مخرج لتلك الأزمة ليضمن الاستمرار في الحكم وولاء الجنود والضباط.
توصل الحكم العسكري إلى ذلك المخرج، وهو تكوين رأسمالية عسكرية أو اقتصاد عسكري بالوكالة، منح الحكم العسكري -على أساسها- الشركات الأجنبية متعددة الجنسية مزايا اقتصادية ضخمة، شملت إعفاءات من الضرائب، وتسهيل الاستحواذ على أراضٍ ومصانع وشركات محلية، وبيع ورهن أصول الدولة.
على مدى ثلاثة عقود، ظلَّ أكاديميون وباحثون برازيليون يرصدون علاقات منفعة متبادلة بين جنرالات الحكم العسكري والشركات الأجنبية، التي كان الانضمام إلى مجلس إدارتها أو هيئة مستشاريها بمثابة مكافأة نهاية خدمة لجنرالات الجيش بعد تقاعدهم، الأمر الذي ربط المصالح الاقتصادية المباشرة لهذه الشركات بوجود الجنرالات أنفسهم على مقاعد الحكم، وهو ما أظهر -إلى العلن- الاقتصاد العسكري بالوكالة.
ومثل أي انقلاب على مدار التاريخ، يظهر من بين طياته أسباب رحيله، فكانت التسهيلات والإعفاءات التي منحها الحكم العسكري هي بداية التغيير ضد هذا الحكم، حيث تم إنشاء العديد من المصانع، وهاجر الريفيون من شتى المناطق إلى المناطق الصناعية، مما أدى بالتبعية والاحتياج إلى تكوين النقابات العمالية للحفاظ على حقوق العمال لدى ملاك المصانع والمشاريع الأجنبية الجديدة.
كان الحكم العسكري منتشيا بتلك الاستثمارات والمصانع الجديدة، ويعتبرها إنجازا غير مسبوق أمام الشعب وضمانة لاستمراره في الحكم، ولم يدرك وقتها أنه تحت أدخنة المصانع وبين ماكينات الصناعة تتقارب وتتشابة أفكار العمال حول عدالة توزيع أرباح تلك الاستثمارات الجبارة التي يذهب مجهودهم فيها إلى الجنرالات ورجال الأعمال المستثمرين.
في النصف الثاني من السبعينيات، بدأت الحركات العمالية تتفق في أكثر من 200 مصنع بـ ساوباولو اعتراضا على عدم العدالة في التوزيع وتدني الأجور، مقارنة بأرباح تلك الاستثمارات، وبدأت الاحتجاجات ضد أصحاب المصانع بمشاركة نصف مليون عامل لتحسين الأوضاع.
ظهر في ذلك الوقت \”لولا دا سيلفا\” نائب رئيس نقابة عمال الحديد ورئيس النقابة عام 1978، وكانت النقابة تضم في ذلك الوقت ما يقارب 100 ألف عامل في معظم مرافق مصانع السيارات في البرازيل، مثل تويوتا وفولكس فاجن ومرسيدس بنز وفورد.
تبنى لولا دا سيلفا رأيا آخر، وهو أنه لتحسين الأوضاع، يجب أولا إسقاط الحكومة والحكم العسكري في البرازيل، لأنهما الظهير المسلح للمستثمرين ورجال الأعمال، حتى يتم القضاء على جشع واستغلال الجنرالات والمستثمرين.
وأثناء إضراب للمصانع في ساو باولو، تبنى لولا دا سيلفا خطابا لنقابات العمال الصناعيين ضد الحكومة، وأعلن تحويل النقابة لحزب سياسي (حزب العمال).
أدى ذلك إلى احتجازه لمدة ثلاثين يوما.
وفي عام ١٩٨٠، حكمت عليه المحكمة العسكرية بالسجن لمدة 3 سنوات ونصف بتهمة التحريض.
أُطلق سراحه في عام ١٩٨٤.
لم يتوقف قطار العمال بعد انطلاقه، ولم يستطع المجلس العسكري إيقاف ذلك القطار أو قمعه كما فعل مع الطلاب والمعارضة.
قام حزب العمال بقيادة دا سيلفا بتبني مظاهرات لإعادة الديمقراطية والقضاء على الحكم العسكري، وواجه السلطة في كافة أنحاء البرازيل، مما زاد من التأييد الشعبي للحزب والاقتناع بأن مطالب العمال مطالب وطنية.
استسلمت السلطة العسكرية للاحتجاجات الشعبية والعمالية وقررت إجراء انتخابات رئاسية عام 1985، لتقضي تلك الانتخابات على عهد الحكم العسكري في البرازيل.
عام 2002 تولى لولا دا سيلفا رئاسة البرازيل لمدة 8 أعوام على فترتين، كسر خلالها قيود الصندوق الدولي، وحقق الاقتصاد البرازيلى قفزات هائلة جعلته على شفا الدخول ضمن الاقتصاديات الخمس الكبرى فى العالم، بل إنه أقرض صندوق النقد نفسه ما يقرب من 10 مليارات دولار في 2009.
ورغم الأزمة المالية العالمية، سجل المشهد الاقتصادي البرازيلي خلال عامي 2004، 2008 معدل نمو مقداره 5.1%، فالاقتصاد أصبح أقل حساسية لصدمات الطلب الاقتصادي الخارجي، وأكثر اعتمادًا على السوق المحلي.
ثمانية أعوام قضاها دا سيلفا في سدة الحكم، قام فيها بإصلاحات اقتصادية، وقام بتحديث ودعم الجيش البرازيلي.
لم يحاول لولا إجراء أي تعديل في الدستور ليتولى فترة رئاسة ثالثة، رافضا المطالب الشعبية الواسعة لمد فترته، ليختتم حياته السياسية قائلا:
\”ناضلت عشرين عاما ودخلت السجن لمنع الحكام المستبدين من البقاء في الحكم طويلا، فكيف أسمح لنفسي بذلك؟\”