اللي بيشوف الحياة جملة من الاختيارات الحرة، وبيكره التسلط لإنه بيحول الاختيارات إلى حصار وقسر، مستحيل يتقبل ببساطة البيئة اللي بيتولد فيها التحجب عندنا.
ولإن الشكل والهيئة من أكتر الخيارات وأخصها فيما يتعلق بكيان الشخص نفسه، بجسمه وبتفكيره، فالمدخل للقلق والتحفظ على كلام اللي بيعتبر الحجاب مجرد \”خيار إيماني\” جاي من انتفاء إمكانية الاختيار، بعدم توافر بيئة حقيقية له، واستحالة نقيضه/بديله.
قصتنا مع الحجاب مش في رفضه كتصور ديني للسمت النسائي، إنما في كراهيتنا الإرغام عليه. خصوصا في بيئة بتتضاءل فيها مساحة الاختيار لحدود بتخلي إرادة المحيط العام والاختيار الجمعي تصادر كل حق للفرد في إنه يختار لنفسه بشكل حر ومسؤول، وبتبقى معززة بعقوبات بعضها غالبها ناعم، قوامه الوصم، وأقلها خشن، بالتعنيف والعنف. لاعتباره اختيار، لازم يكون لنقيضه (السفور) مساحة نسبية مقاربة من المقبولية المفترضة، والإمكانية للتحقق. لو انتفت الإمكانية للتحقق، فالسفور بيكون مجرد خيار وهمي، ومن ثم يبقى الحجاب فرض، مش اختيار، لإنه لا اختيار دون تعدد البدائل.
أهل التصور الديني المتشددين المنادين بوجوب ”فرض“ الحجاب، بادئين من مساحة تسليم بإن \”ده باكيدج الدين\”، ولو قلت لهم إن معنى الإيمان بينتفي بالقسر، هيهاجموك بضراوة ويوصموك. بس الأسوأ منهم أهل التشدد الاجتماعي، وأشياع المحافظة الاجتماعية المهيمنة دلوقت على ثقافة المصريين.
الأولانيين نظرتهم للوجوب بتقوم على تفعيل أدوات وآليات للضبط الاجتماعي المتشابكة، لدرجة بتوصل للأمور المتعلقة بالدين لحال اللاخيار. ولإن المجتمع الموصوف بإنه \”إسلامي\” عندهم بيتلخص في عملية تحكم في هيئة وسمت الناس، وكود \”محسوم\” بسنن وتوجيهات وفروض وأحكام، فالنقاش من باب الحرية والاختيار هو ذاته منفي وملفوظ عندهم. ومش بيلجأوا له إلا من باب الإفحام، والخداع باظهار التناقض في كلام أصحاب مقولة الحرية ووجوب التخيير.
وللأسف الحال هيفضل كده طالما بقيت فكرة المجتمع من منظورها الإسلامي مرهونة بالإرغام، وناجحة في تشكيل نفسها عبر مصادرة الاختيار بحجة الإلزام \”الشرعي\”، وهيبقى مستحيل تعديلها طالما قادرة تترجم مفهومها للقوامة في أوساط (وهنا أس المشكلة الأكبر) تيار المحافظة الاجتماعية المتضخم، اللي شغلته يفرض في كل تفاصيل المجتمع أوضاع التراتب التمييزي بين الذكور والإناث على مستويي الحقوق والواجبات.
صعب تناقش حد جاي يقولك (تصوره صوت بنت ملتزمة): مش انت بتتكلم من باب الحرية؟ طب هيقنعك كشخص ليبرالي مؤمن بطبيعية الحق في الاختيار وأولويته، إنك تعرف إن \”ده باختياري\”. ولا هتمارس وصايتك بقى على خياراتنا باسم الحرية؟ وتعتبر نفسها أفحمتك وطلعت السلطوي المتلبرل اللي مستخبي جواك. ومفيش باب تقول له مش هاختلف معاك/معاكي على الحق في ارتدائه بداية طالما إنه نتاج لاختيار حر، لإنه من منظور ليبرالي التدين بذاته خيار، هكذا المتصور، بس إضمني إن فيه بيئة اختيار وطرح آمن للسفور. هل السفور إمكانية في البيئة دي زي الحجاب؟ وهتهاتي وانت بتفهمه/ـا إن حجة الحرية بتاعتك فاكسة من بابها لإن بيئة تكوين الاختيار المتصورة عندك، بيئة مش بس مخادعة، إنما بتحط سؤال الحجاب قدام البنت في صورة \”لا خيارات\”.
عشان نناقش هل فعلا الحجاب جه باختيارها ولا هكذا شُبه لها، محتاجين نشوف هل سؤال الحجاب نفسه متحرر من محددات ثقافة العيب والمحافظة الاجتماعية، وهل قادرين نمنع تحويله في وعيها من سمت وهيئة وقورة باعثها إيماني، أو سمت اجتماعي يمكن الجدال بشأنه، إلى وسيلة \”حماية\” من ضغوط اجتماعية منشؤها مسالك الذكورية المتشددة القهرية، اللي بتتكامل مع تراث كامل من التمييز ضد النساء، لسه بيحد بين المرأة وبين مكنات اختيار يخص حياتها وهيئتها بشكل طبيعي مساو على الأقل لأقرانها الذكور. هل متاحة لدينا ضمانات للحرية اللي أقلها التمكين للخيار الأقلوي، وحماية الشخص اللي قرر يروح للخيار ده من العقوبات السوفت والهارد. غياب التمكين بيعطل الحرية زي ما احضار القهر السلطوي القانوني لمسألة اجتماعية (بفرض الحجاب أو فرض السفور) برضو بيعطل الحرية.
والحوار بيتعقد جدا لما ينسكب على ناره زيت الإيديولوجيا بتاعة دولة المؤمنين. وبنخش في مهاترات نصها تدليس ونصها التاني مراوغة فكرية ودوران بعيد عن مركز الإشكال اللي بنتجادل فيه. لإن جدل الحجاب ما بيعجبهمش. عشان بيتحدى جذور فكرة البيئة السلطوية المطلوبة لدولة المؤمنين دي. وبيتحدي مكونات اجتماعية شغلتها تفرض سلطة فوق سلطة الفرد، مهمتها تتحكم في حياته وشكله ومجمل حرياته الشخصية المتعلقة بجسده.
هيبقى فيه جدل حقيقي على الحجاب لما يحصل تفكيك منظومة الضغط الاجتماعي. وهيبقى فيه إمكانية حقيقية لتعديل منظور القوامة الأبوية (أدوار الأب والزوج) اللي بتتكثف فيه حجج المتدينين، إلى منظور للإيمان المتساوي والحر. لكن دلوقت مستحيل نتعامل مع سؤال القوامة (مسؤولية شخص عن شخص) في هيكل اجتماعي تراتبياته في مجملها سلطوية (سمته الأبوية الاجتماعية)، ومعندهاش مانع تفرض ده بالعنف. وبيحوط النقاش عنها تواطؤ مصلحي من الفئة الأكثر حظوة (الذكور هنا في حالتنا) ضد الفئة موضوع التمييز (اللي هما الستات).
ساعات باعجز أفهم حجة الاختيار والحرية لتعضيد ظاهرة التحجب القسري في بلدنا، خصوصا لما بيقولها ذكور لاخفاء موقف ذكور تانيين بينطلقوا في فرض الحجاب من توهم إنهم في الموقف ده أصحاب ميزة كذكور، في حين إنهم شخصيا بيتحركوا من منطلق رغبة في التخلص من الضغوط، يعني هو نفسه موضوع للضغط من الخارج، ولا اختار ولا كان قّيم، إنما اشتغل وكيل أعمى عند قيم تاني.
بنقدر تشوف جذور الموقف الذكوري المؤيد للحجاب لما تتقال في شهادات بنات كتير عن ظروف تحجبهم وحجج الوالدين اللي اتقالت من باب غير باب الاقناع بموجبات الدين، وحتة الإيمان، واللي ساعات كان بيترافق معاها التوبيخ والتهديد. الموقف المرتكز على الخشية الاجتماعية، وثقافة العيب والخوف من الوصم اللي بنسمعها في تعبير زي: ”يبقى شكلي إيه قدام الناس لما يشوفوكي خارجة بشعرك مكشوف؟ والناس يقولو عليا إيه؟“ النوع ده من الحجج بيمثل براهين على إن الإلزام للبنت بالحجاب مجاش لا من الاختيار الإيماني الشخصي ولا من قناعة قوامة والدية حقيقية.
ذاكرتي وأنا باقول ده بتستدعي مثال واحد من بنتين من شارعنا من عيلتين كانت بينهم فوارق واضحة في الثروة والخلفية الاجتماعية وأسلوب المعيشة. البنتين كنت باشوفهم خارجين من شارعنا بالحجاب، وأول ما تتحط رجليهم في المترو أو الميكروباس يخلعوه ويحطوه في الشنطة، ودول كنا كمراهقين بنبص لهم نظرة تشكك، بتعيد تدوير الوصم الاجتماعي، وبنستخدم في حقهم وصف صياعة وسرمحة وإحنا بندينهم (وهي نفس التوصيفات اللي مكناش بنشوفها وحشة لو اتوصف بيها الذكور). البنات دول ما كانش فارق معاهم الوصم الاجتماعي والمناخ العام قد ما كان فارق معاهم ضغط الأهل وبس. لذلك عند أقرب فرصة للخروج المادي من دايرة الإلزام الأسري، بيتوقف عندهم الحجاب، ويرجع لما يرجعوا تاني لجوة حدود الدايرة دي. ولما كبرت ما كنتش مستغرب لما عرفت إن الموضوع كان باتفاق/تواطؤ من الأب والأم، وإن البنات ما كانتش بتبلفهم ولا حاجة.
وبافتكر حالة أهل بنت من الجيران بدوا أكثر رحابة وسايبين الخيار لها، لكنهم في الحقيقة كانوا بيسلموها لضغط الدايرة الأبعد للعيلة عشان تتراجع عن اللي تقريبا شافوه تمرد منها، بعد ما فشلت تغذية أمها لها بخشية إنها تعنس وما يجيلهاش عريس من القرايب. العيلة دي كانت متعودة على الزيجات الداخلية. وبينت الحالة دي قدامي باللي حصل فيها من ممارسات محدودية قصة إن الأهل المتنورين ممكن يدوا الاختيار. لإن الوضع في الحالة دي كان نفي لملكة الاختيار، وببساطة الوالدين ما رموش خيارات الحجاب والسفور في حجر البنت، إنما رموها هي نفسها في وش وحش الضغط الاجتماعي المباشر، وسابوها شوية تعاني الوصم، وقدامه كانت الصغيرة أضعف من إنها تشوف خيارات، وحاوطها الخوف الشديد من أثار لفظها في محيطها المباشر والتقول عليها. كل ده خلاها تذعن (مش تختار). قالت خلاص هاتحجب، فهللوا واحتفلوا وزعموا إن: \”ربنا هداها\”! وبفرحة اللي اتخلص من العبء قالوا لها: ما احنا كنا عاوزين كده برضو بس ما رضيناش نضغط عليكي. كنا عاوزينك تختاريه بحريتك. ومآمنين إن ربنا هيهديكي. والحقيقة هي إن الضغط حصل فعليا وبقسوة، وتبددت كل الخيارات قدامها وبقت الطرحة هي طوف النجاة ودرع الحماية والانقاذ.
في مجتمع مش قادر يواجه كمية الصور السلبية اللي بتلتصق بست اختارت السفور، ولا قادر يعزز أمانها الشخصي لا في المجال الخاص ولا في المجال العام، صعب نتكلم عن الحجاب كاختيار في العموم، ناهيك إنه يتوصف بالاختيار الحر والواعي والإيماني. وهنا مش عاوز استدعي مصنفات اجتماعية بقت تظهر بمعيار الطرحة، وأكثرها طرافة طبعا التمييز بين المسيحية والمسلمة، واللي بينتج مفارقات يومية ممكن تحكي مئات السافرات المسلمات عنها قصص كوميدية وتراجيدية.
كمان ضروري نعرف الشعرة الفاصلة بين مبدأ تحرري وهو عدم التدخل في أحوال الناس، حتى لو بدت لنا غير مقبولة، طالما ارتضوها، وبين ضرورة النقد الاجتماعي لكشف مساحات التدخل السلطوي الناعمة في حياة الناس عبر أبنية تبدو \”طبيعية\”، و\”اجتماعية\”، وتوهمات أنه جرى فيها اختيار.
الفارق الموضوعي في المسألة في كون التأثير السلبي للأفكار والتقاليد والنصوص بيخرج من نطاق الجدال الاجتماعي اللي هو أمر محمود لحال الإرغام والقسر، المشفوع بصنفين من المعاقبة، صنف ناعم ومركب مركزه الضغط الاجتماعي وثقافة العيب، وبيحصل فيه الوصم والنبذ الاجتماعي، وصنف بينتقل من العقاب الاجتماعي إلى المس بسلامة الشخص عبر التعنيف والقهر الجسدي. المسافة بين الاتنين تكاد تنعدم في مجتمعات الريف، الموصومة والمكروه تمردها باختيار السفور بتبقى حرفيا مستباحة. جدال التحرر في مصر بيبقى مستند في تحليله لأحوال ناس برجوازيين في الأغلب من أوساط المدن يعني ناس عندها هامش لحرية الجدال، وهامش لحرية تمثل الخيارات المتمردة عن الغالبية. في حين الاستناد ده بيعمينا عن معطيات المسألة في عالم الريف والمجتمعات المهيمن عليها من تيار المحافظة الاجتماعية واللي خرايط الفقر بتتطابق معاها.
لازم النضال ضد السلطويات المضمرة وفي مساحة تحرير المرأة يتحرك على مستويات متعددة ويربط قضايا الإرغام بقضايا وضعية المرأة واستقلالها.
ربما مش من المناسب عزل قضية فرض الحجاب عن مجمل التمييز للمرأة وعن مجمل التمييز ضد الريف وافقاره، لكن مع طرح بيربط تمثلات التمييز الاجتماعي ببعضها، وبيحط الحجاب في وزنه ضمن أحوال التمييز هيكون الجدال أنجح. استهداف السلطوية المتسترة في أبنية اجتماعية بتدير منظومات الأخلاق والدين والعادات، وقادرة تمارس ضغوطها على الذكور وتحويلهم وكلاء لها في موضوع الحجاب، بتوهمات إنهم في موقف حظوة وأفضلية، محتاج كمان خطاب يتحدى التصور بتاع التمايز ده. قهر \”ويبقى شكلي إيه قدام الناس لما تخرجي كاشفة شعرك\” على خفته، هو مبتدأ لهذه السلطة. وبيتصاعد لمستويات وصم وتعييب وتكليل بالعار بتفضي في لحظات لنموذج قتل الشرف. الوصم اللي بيقود جهة التعنيف ومن ثم للعنف لابد من التكثيف عليه وتفكيكه كسلطوية. وهنا محل للتحدي للي عاوز يشتبك في الجدال ده. الجدال بين الذكور على توهماتهم اللي تحولهم لوكلاء لسلطة قهر اجتماعي.
استدراك هنا قبل الختام، ربما وإحنا بنطلب عدم التدخل في خيارات الناس (وده شيء مهم)، بنتورط دون أن ندري في مصادرة على الحق في النقد الجذري اللي بينبه الأشخاص في وهم الاختيار إنهم في حال اللاخيار، بانعدام البديل، وأن في يد طرحة الحجاب، وفي اليد الأخرى لا شيء. السفور مستحيل واقعيا. لازم نحافظ على الاتنين مبدأ احترام خيارات الناس، وحق النقد الجذري للخيارات دي.
وزي ما إحنا مش لازم نتورط في الوصم المضاد، فنوقع البنت محل القهر بين سندان الضغط الاجتماعي الواصم لها لو ما اتحجبتش، ومطرقة الوصم المضاد من أدعياء التحرر اللي بينطلقوا من موقف طبقي، فيعتبروها \”متخلفة\” أو \”عبدة سعيدة\”. ربما من الصعب منع النقد الجذري والحاد من إنه يبدو أحيانا كوصاية، لكن دي مسؤولية لابد من الإلحاح عليها وبيان إنه مش كده.
كمان في الجدل ده لابد نفهم إن كتير من مسائل الحرية هتفضل محلات للنضال والتفاوض والجدل المستمرين، ومفيش في المساحة دي ثوابت جامدة.