ناهد صلاح تكتب: الهروب من بر مصر

هل نحتاج أن نفتش في أغنيات البكاء عما يبرد غليان صدورنا؟ يعبرني السؤال فيما أشاهد فيلمًا وثائقيًا ضمن عملي كعضو في لجنة المشاهدة لمهرجان الاسكندرية السينمائي، فالفيلم الذي يتناول رحلة لهجرة غير شرعية؛ حملت ناسًا مجبولين بالهموم يهربون ومصائرهم على التخوم الواهية للحياة والموت معًا، وهو ضمن مجموعة أفلام وثائقية صادفت أنها تستعرض موضوعات الهروب والهجرة غير الشرعية أبطالها سوريون أو أفارقة وأنماط بشرية مختلفة، أكدت مفوضية شئون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، مؤخرًا، أن 40 في المئة من النازحين يوميًا على مستوى العالم ينتمون للدول العربية، خاصة سوريا والعراق، كما ذكرت المنظمة العالمية للهجرة أن أكثر من أربعة آلاف مهاجر ولاجئ لقوا حتفهم منذ بداية العام الحالي، وقد سجل هذا العدد ارتفاعا بلغ 26 في المئة بالنسبة إلى الفترة نفسها من العام الماضي، وكلهم يفرون من الجحيم والخراب في بلادهم، سواء الحرب أو الفقر أو الاضطهاد، وهنا يجتاحني سؤال آخر فيما أحاول أن أحدد الفارق اللفظي بين كلمتي (هارب ولاجيء): ما هو التوصيف المناسب للمصريين الذين يفضلون الضياع في البحر عن البقاء في البر؟ وهل تصلح أغاني قديمة لمحمد منير مثلًا أن نرددها في زمننا هذا؟ هل ينفع نغني: \”أمانة يا بحر تستلم الأمانة/ أحبابنا يا بحر فى عيونك أمانة\” دون أن نصاب برعشة الفزع ونحن نتابع أخبارهم كغرقى أو عائدين في توابيت؟ وهل يمكن أن نتجاهل كلام سائق التاكسي الذي أقلني وهو يحكي ويعدد مظاهر بؤسه متأثرًا بالغلاء وارتفاع قيمة الدولار وإنذارات ارتفاع سعر البنزين قريبًا والشروط التي يفرضها صندوق النقد الدولي على مصر وغيرها من شواهد انحدار الوضع الاقتصادي الذي يزداد سوءًا في ظل عجز الموازنة وغياب الاستثمارات الحقيقية، يتحدث الرجل ولا شيء يوقفه إلا جملته الختامية التي رماها كرصاصة مدوية: \”أنا قررت أسافر وأسيب البلد\”، وهي جملة بالمناسبة نسمعها كثيرًا في الفترة الأخيرة؛ وكأن كل من يرددها يحاول أن يتخلص بها من سوء حظه وكأن لا ذكريات له سوى البؤس؛ ولا يعبأ بالمجهول الذي ينتظره في البلاد الأخرى ولا بترتيب أوضاعه القانونية، وبالتأكيد لن يفكر كثيرًا في المراكب الصغيرة البائسة في حال ما كانت رحلة فراره غير شرعية، ولما قلت لسائق التاكسي: هتروح فين والعالم حوالينا كله اتجنن؟ نظر لي في المرآة الأمامية وقال بسرعة: آيرلندا.
لم أعرف لماذا خطرت آيرلندا تحديدًاعلى باله، لكني أعرف جيدًا حالنا فى مصر؛ حيث ارتفع عدد الفقراء إلى 27.8% من إجمالي السكان ولا يستطيعون الوفاء باحتياجاتهم الأساسية من الغذاء وغيره، و57% من سكان ريف الوجه القبلى فقراء مقابل 19.7% من ريف الوجه البحرى. أما في القاهرة فـ 18% من سكانها فقراء، وهي إحصاءات أعلنها الجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء، موضحًا أنها النسب الأعلى في تسجيل الفقر ورصد شرائح مجتمعنا لنكتشف أن هناك أسر بأكملها لا تتمرغ في نعيم \”بطاقة التموين\” ربما فرد واحد منها وفقط، وأن النسق الاستهلاكي لا يتناسب مع دخل الأفراد، بل هناك 2.3% من الأسر فى مصر ما زالت تستخدم التليفزيون الأبيض والأسود، ومن هنا فلا يمكن أن تلوموا الضحية؛ لأن الأمر شارح نفسه بنفسه ويقدم الإجابة الكاشفة للمتلهفين للهجرة السرية أو العلنية، ويفسر أيضًا مخاطرة البعض والذهاب إلى ليبيا رغم الخطف والذبح؛ فحتى في السبعينيات الطاردة للصعايدة والفلاحين الذين كانوا يسلمون أنفسهم من رحيل إلى رحيل ويوزعونهم كالهدايا المغلقة على دول الخليج والعراق وليبيا، كانوا يأملون أن ليل السفر زائل وأنهم لابد يعودون يومًا بأموالهم القليلة التي ادخرونها في الغربة، أما اليوم فالفرار من بر مصر هو غاية في حد ذاته بعد أن أصابتهم كل رماح الفقر والقهر، وبمنطق \”لا تلوموا الضحية\” وأنتم تعددون قصص الهروب والتي يكون أغلبها مأساوي، فإنه أيضًا يكون من العبث أن نناديها مع منير: \”بندهك يا طير مهاجر يرجع الصبح المسافر/ بندهك فلاح وبنّا يزرعوا في الأرض جنة\”، فيما مسلسل تجريف الأرض الزراعية مستمر بل تطور لتحويل الأراضي إلى ملاعب كرة يتم تأجيرها بالساعة، فضلًا عن تلوث مياه الري بالنفايات والحيوانات النافقة والصرف الصحي؛ ما يجعلنا فعليًا نتضرع إلى الله شاكرين ومهللين وقائلين: السلام علينا يوم نأكل من زرع هذه الأرض ويوم نصعد منها أحياء.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top