(قررت أن أعمل على نشر الدعوة الإسلامية شرقًا وغربًا برغم مكائد الخصوم والأعداء، وكان المسيح من وقت لآخر يرسل لي إشاراته التي لا أنكر أنها بادئ الأمر كانت مبهمة لي، ورويدًا رويدًا بدأت الغشاوة تسقط عن عيني).
هكذا روى أحد المتنصرين على مسجل صغير أهدته له الكنيسة، جاعله من قصة عبوره مادة تبشيرية لا يقف أمامها شيء.
بالطبع تبدو كلماته مفعمة بالهياج والرصانة في آن، لكن أهي وليدة التجربة فعلًا؟!
لنطلع سويًا على قصة مماثلة وقعت أحداثها منذ حوالي ألفي عام:
(وفي كل المجامع كنت أعاقبهم مرارًا كثيرة واضطرهم إلى التجديف وإذ أفرط حنقي عليهم كنت اطردهم إلى المدن التي في الخارج. ولما كنت ذاهبًا في ذلك إلى دمشق بسلطان ووصية من رؤساء الكهنة رأيت في نصف النهار في الطريق أيها الملك نورًا من السماء أفضل من لمعان الشمس قد ابرق حولي وحول الذاهبين معي. فلما سقطنا جميعًا على الأرض سمعت صوتًا يكلمني ويقول باللغة العبرانية شاول شاول لماذا تضطهدني. فقلت من أنت يا سيد فقال أنا يسوع. فللوقت وقع من عينيه شيء كأنه قشور فابصر في الحال وقام واعتمد.)
هناك في الفن مدرسة تشرح كيف عليك كصانع للحدث أن تقدمه (حتى لو عندك ما هو جديد) في كود أو صورة مفهومة تم تقديمها مرات ومرات للمتلقي، وبالتالي سيكون من السهل جدًا أن ينبهر بك (حتى لو لم تقدم ما هو جديد)، وهو ما أدركه المتنصرون حينما بدأوا يحكون قصصهم، فنجدهم لم يغفلوا قصة بولس الرسول المؤسس الأهم للمسيحية، فاقتطفوا منها تفاصيل كثيرة، وهي القصة المذكورة بأعلى، ولا بأس من إضافة بعض الحواشي المفرطة في اللا واقعية مثل أن المسيح زارهم في حلمهم أو يومهم، أو أنهم رأوه يبكي! ومثل هذه الحبكات لا تحتاج لمؤلف محنك، بل أخرق تعوزه الثقة بالنفس.
ومن هنا يلتقط المسيحيون صدق هذا المتنصر ومعاينته الله، لأن هذه القصص من تراثهم ومألوفة لهم.
هل الأمر يستحق كل هذا العناء؟
ليس خفيا على أحد المطاردات التي يتعرض لها المتنصرون من قبل الأهالي، وربما يتعرض هؤلاء الأخيرين للمضايقة من قبل الجيران، وربما يُلاحق الجميع من قبل قسم الحي، ثم يأتي جهاز المخابرات في نهاية السلسة الغذائية!
محتمل جدًا أن يُفصلوا من أشغالهم، ولو بقوا، فلن يخفف هذا من وطأة ما سيواجهونه.
أما أزواجهم وزوجاتهم فقد يقتلونهم، وبدم بارد، وبذلك يريحون أدمغتهم ويرحموهم قبل أن يكفروا بالله.
ولو افترضنا أن أحدهم فعلًا أقدم على القتل، هل سيحاكمه القضاء لأنه أنقذ مسلمًا من الردة؟!
إذًا، لو اتفقنا حسب ما أتى في الحلقات السابقة على التشابهات المروعة بين الديانتين، فما الذي يدفع أحدًا للتنصر ومشاكله؟
– في الحقيقة التماهي بين العقيدتين يجعل الانتقال من أحدهما للآخر سهلا ولا يربك العابر، فهنا الله، وهناك الله.. هنا يصلون، وهكذا هناك.. هؤلاء عندهم جهنم ونحن، لدينا جحيم، وبالتالي فهذا التشابه يمرر للعقل فكرة الاعتناق بشكل طفيف، كأنك تترك مطربًا وتعجب بآخر!
ومع ذلك لا ننسى أن هناك فروقا بسيطة تشكل سحرًا في بعض الأوقات، فالإسلام يمنح الله الجبروت والعزة، في الوقت الذي توضح فيه المسيحة بأنه يمكنك مناجاة الله بأبي.
والانتقال من فكرة سبحانه المتعالي فوق السماوات لإله متجسد لعب مع الأطفال ورأيناه مصلوبًا فوق الجلجثة؛ فتفرد المسيحية بين بقية الديانات والمعتقدات حول العالم بفكرة تجسد الله، لا شك أكسبها سحرًا حتى لو لم يكن مقنعًا.
– لا يجب أن نستخف بحجم البيئة التي ينشأ بها الفرد، فلو قابلنا شخصًا ولد بأوروبا أثناء عهد الحملات الصليبية التي شنتها الكنيسة الغربية وسألناه ما رأيك في البابا، سيقول إنه رجل دموي جدًا، وما رأيك في يسوع؟ أراه منتصرًا ليس في قيامته من بين الأموات، بل في كل قطعة تحصل عليها جيوشنا المُباركة.
حسنًا، الأمر كذلك هنا، لو لدينا شخص نشأ وهو يراقب ما يتعرض له الأقباط في مصر من اضطهاد ومضايقات، سيتشكل في وعيه أن المسيحيين غير قادرين حتى على أن يمسكوا بسكين ويذبحوا فرخة ليلة العيد.
على الجانب الآخر يتم تصدير فكرة أن أي مسلم حتمًا هو متطرف عنيف يحمل بذرة أن يكون إرهابيًا عظيمًا، وبالطبع هذا بمرور الوقت يرسخ لدى كثيرين الإيمان بأن المسيحيين دينهم هو الحق، إذ يتحملون كل ذلك وهم صامتون، ولا يفكرون أبدًا بأن السبب الوحيد وراء استكانتهم هو قلتهم، وأنهم لو عادوا أقوياء لقتلوا \”هيباتيا\” مرة أخرى.
– قرأنا عن فلاسفة ومفكرين كانوا كل يوم يتوصلون لقناعة منافية تمامًا لما اعتنقوه بالأمس، وهذا منطقي جدًا بالنسبة لعقولهم التي لا تهدأ وتمل حتى من الصور التي تكونها عن كل شيء، كل يوم. فربما يرون الله خلف السحاب، ويوم يرونه هو السحاب، ويوم يرونه جانبهم على الأرض، وهكذا يوجد بين المسلمين من لا يسيرون على نهج بقية إخوتهم، بل يجتهدون للإتيان بما هو أدق وأصح في دينهم، ويذهبون للجامع الأبعد حتى يكون ثوابهم أكبر ويجتهدون في قراءة الأناجيل أكثر من القرآن حتى يردوا بالتي هي أحسن، وفي لحظة عملوا لها ألف حساب لكن قدرهم أن ينزلقوا فيها… يساورهم شعور وكأنهم يرون الكون من جديد، منذ البداية التي لم تسبقها أي بداية، لحظة انبثاق كل الأشياء، فيعبرون ويصيرون مؤمنين بابن الله، بدلًا من نبي الله. وهم في رأيي أهم أنواع المتنصرين وأخطرهم.. أهمهم لأنهم لم يتحولوا بسبب ضعف مادي أو عقلي أو تحت أي ضغط، على العكس، فهم أذكياء جدًا لدرجة جعلتهم يرتدون من الشيء لنقيضه في خفة ومرونة.
وفي الحالتين مسلمين كانوا أو أقباطًا، فهم معتمدين على الآيات والبراهين الإلهية.
أخطرهم لأنهم يظلوا على سلوكهم العنيف حتى بعد اعتناقهم للمسيحية، فهم عبروا ولم يتحولوا، أي أن المسلم الذي كنت تراقبه وهو يصفع أخته إذ تركت الحجاب، ربما تراه غدًا داخل الكنيسة يستنكر على امرأة أنها نسيت الإيشارب، كما أن المضحك، بالنسبة لي على الأقل، تفانيهم في الرد والمجادلة، مثلما كانوا يفعلون من قبل، وإن كان الموقع قد اختلف.
ولا يتوقف الأمر هنا؛ فقد يختاروا الانضمام لطائفة ما من بين الطوائف المسيحية التي لا تحصى، ثم لا يتفرغون فقط للرد على الإسلام الذي كانوا يدينون به يومًا، بل يبدأوا في الهجوم على بقية الطوائف الأخرى.
ولا بأس من إبداء الآراء في المسائل العقائدية بلسان مخضرم، وربما مشاكل الشباب والعنوسة، وأيضًا الطبخ والضعف الجنسي، وطبيب نفسي لأي امرأة غير مرتاحة مع زوجها، والتشنيع بالمثليين لأنهم أعداء المسيحيين والمسلمين، ولأن الله على حد قول أحدهم؛ خلق فتحة الشرج لغرض واحد.
وكنت أريد أن أسال هذا المتنصر وقتها هل سمعت عن الجنس الشرجي بين الرجل وزوجته؟!
وربما هذا يوضح لنا أن العقلية التي تقتنع بفكرة الدين، أي دين، قد تكون عقلية على قد حالها، لكنها شاطرة بامتياز في المهاترات.
هذا النوع من المتنصرين صحيح أنه كما ذكرنا تحول للمسيحية لا بسبب شيء سوى عقله، لكنه في الوقت ذاته يعرف جيدًا، قبل حتى قرار العبور، المكانة التي سيحظى بها في المعسكر الآخر.
سيسأل طبعًا أحدكم؛ لقد نالوا هذه المكانة بالفعل، لماذا كان عليهم أن يجازفوا؟!
الحقيقة أن الأعضاء الجدد في أي مكان، دومًا يحظون بالأكثر.
اليهودية والمسيحية والإسلام تحمل بينها أمورًا مشتركة أكثر بكثير من المختلفة، بل إذا نظرنا إلى بقية المعتقدات عند الشعوب الأخرى ومدى تفاوتها عنا، سنشعر أن الثلاثة شيء واحد.. بالطبع تثير هذه النظرية غضب كثير من المؤمنين، إذ في نظرهم قوة دينهم تكمن في اختلافه وتفرده عما أتى به الأولين، لكن عليهم أن يسألوا أنفسهم: متى ذُكرت قصة الخلق لأول مرة؟ أليس في التوراة؟! من أول من تحدث عن موسى وبني إسرائيل؟ أليس الإنجيل (العهد الجديد) قائما برمته على حياة عيسى بن مريم؟! والذِكر يقول: (قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا.)
وحتمًا هذا التماهي الذي يحاول الجميع أن يكسوه بعباءة التفاوت، كان في عقل نجيب محفوظ حينما كتب \”أولاد حارتنا\”؛ لم ينظر لعلاقة الإسلام بغيره من وجهة نظر مسلم، بل كباحث وأديب.
لكن للأسف هذا التداخل بينهم سواء كان خفيًا أو معلنًا، لن يجلب سوى التنافر والنزاع، والساخر في الأمر أنهم لن يتوقفوا عن ذبح بعضهم البعض من أجل نصوص كتبت قبلهم، وأخذت من بعضها ما أخذت وتشابهت في اتجاهاتها (العنيف منها والسهل) مثلما تتشابه أفلام هوليود، ومع ذلك تنال إعجاب المهووسين.