في صغري كنت أختبىء في مقعدي بالفصل حتى لا يراني المعلم. كنت دائما ما أنجح، ولم أخفق سوى في الجامعة، حين زاد وزني وصار التخفي مستحيلا.
رغم إجادتي للاختفاء كل هذه السنوات، لم أُجد الاختفاء من الموت.. لم أمت بالطبع من قبل، لكن الموت يخطف دائما من أحب ويترك من أكرههم ومن لا يعنوني على وجه الأرض.
ربما هي نظرة تشاؤمية للحياة، فبالطبع هناك من أحبهم ويعيشون، لكنني لاحظت أن هناك علاقة طردية بين مقدار حبي لشخص ما وزيادة احتمالات وفاته!
جميع من أحبهم تزداد احتمالات الموت لديهم.. كنت أحب أبي وجارتنا التي عكفت على تربيتي، فماتا وأنا طفلة.. أخبرتني أمي أنني أعلق حياتي بالكبار في السن.. أحببت طفلاً من أبناء الجيران، فصدمته سيارة ومات في السابعة من عمره.
لا أعرف هل هذه سخرية القدر التي يقولون عنها، أم أنها الصدفة.. صرت طرفة من حولي في علاقتي بالموت، لدرجة أن أحدهم طلب مني أن أحب إسرائيل حتى تفنى من الوجود.
رأيت في نفسي مستقبلاً في النحس وسوء الحظ، ورآني من حولي نائب عزرائيل من كثرة من ماتوا وأنا بجانبهم.
في كل مرة يموت شخص أحبه، أشعر بإحساس بالذنب.. ماذا لو لم أكن أحببته كل هذا الحب، ربما كان حيا يرزق.
قد تبدو فكرة جيدة لعمل روائي قاتم عن فتاة يموت كل من تحب.. ربما اتهمني القاريء بالمبالغة والفانتازيا، لكنها الحقيقة، ككل الحقائق المزعجة، أكثر بشاعة من التخيل.
قرأت رواية \”انقطاعات الموت لسراماجو\” ولم أقتنع بفكرة وجود الموت.
مازلت أقتنع أن وجود من أحب حولي وحتى على فراش المرض أفضل.. هي أنانية مني بالطبع، لكنني لا أحتمل الحياة بدونهم، وأصب غضبي على الشمس التي تصر أن تسطع يوميا في عالم لا يعيش به من أحبهم.
في كل صباح، أستيقظ وأمتعض كوني مازلت في خط الحياة.. إذا قسنا نسبة الموت للحياة لوجدنا أنها متساوية، هناك خمسين بالمائة احتمال أن أموت، ومثلها أن أعيش، لكن الاحتمالات تأبى أن تريحني. يقولون إن الحياة تستمر حتى نرى أملا في الغد.. لكنني لا أريد أن تستمر الحياة.
ما يفجعني أن الحياة تستمر.. أنني مجبرة على أن أحيا.. في طفولتي كنت أظن حين أموت، ستتوقف الكرة الأرضية عن الدوران حزنا عليّ، لكنني كبرت وعرفت أن لا شيء يتوقف لموت أو حزن أو قهر.
كل ما أقوله يتنافى مع ما تقوله الأديان والعقل والسعداء المتشبثين بالأمل.. أعلم ذلك، لكنني ربما أملك الشجاعة للوقوف في وجه كل باقات الزهور ثقيلة الرائحة وازدرائها.. أن ألفظ كل كلمات المواساة الخائبة التي لا تضر ولا تنفع.. أن أسد أذني عن كل دعوات الصبر.. ربما خير من يمثلني في الأمر \”المهلهل بن ربيعة\” الذي حين قُتل أخيه، صار يقتل كل من هم حوله، وحين سألوه عن الترضية المناسبة لحقن الدماء، أجابهم: أريد أخي حيا.
أنا أيضا لن أصالح العالم، ولن أكف عن كراهيته حتى يعود من أحبهم للحياة.
لو كان بإمكاني قتل الأمراض لقتلتها، لو أعرف كيف أقتل حادث سيارة لفعلت الأمر بدم بارد، لكنني يا عزيزي مهلهل ضعيفة الحيلة.. مات من أحب بأسباب لا يمكنني الانتقام منها.