حسام الخولي يكتب: "اشتباك".. كيف نشأت الصداقة بين المتعة والألم؟

\”في أفضل فيلم مصري شاهدناه منذ سنوات، كيف تمكن \”محمد دياب\” ببراعة من أن يجعل كل منا يلقي بنظرة مطولة وهادئة داخل نفسه.. نظرة تجلب النور إلى جوانبنا الأكثر إظلاما؟\”

يحاول الكاتب -أو من المفترض أن يحاول- قدر الإمكان أن يبتعد في عرض وتحليل العمل الفني عن العبارات التفخيمية والثناء المبالغ فيه من أجل أن يحتفظ بالقدر الأكبر من الموضوعية والحياد في كتابته.. اعترف هنا في الكتابة عن هذا الفيلم أنني سأواجه صعوبة كبيرة في الالتزام بهذا الأمر!

والأسباب ليست بالقليلة، مبدئيا فإن الزاوية التي أحب كثيرا أن تكون مدخلي للتعامل مع العمل الفني ومع الأفلام على وجه الخصوص، هي تجربة المشاهدة.. ما الذي تمكن صانع الفيلم من استثارته وتحريكه في نفوسنا؟ وكيف جعلنا نفكر ونستنتج ونستمتع بالصورة والصوت والحركة والأداء ونتوحد مع شخصياته لنحب ونكره ونخاف ونغار ونتوتر؟ وتقاس الأفلام لديّ كثيرا في جودتها بهذه المقدرة ومدى نجاح صناعها في إثباتها.

الجانب الآخر أنه ولسنين طويلة تمكن القليل جدا من الأفلام المصرية من إبهاري بجودته، وتمكن عدد أقل من دفعي إلى الكتابة عنه بأي نوع من الحماس. دائما ما كانت هناك نقيصة ما، ثغرات منطقية واضحة، استسهال أو رداءة أو عدم اتقان في التفاصيل، مبالغة أو افتعال أو خطابية جوفاء.. هذا بالطبع بغض النظر عن معظم الأفلام التي ننتجها منذ زمن، والتي لا تتكون إلا من كل هذه الأشياء مجتمعة.

السبب الأهم إذن يتضح الآن.. فيلم \”اشتباك\” من إخراج \”محمد دياب\” لا يباري في هذا الجانب من قبل أي فيلم مصري أو عربي تم انتاجه في السنين الماضية، ولا حتى من الكثير جدا من أعمال السينما العالمية الأمريكية أو غيرها.

الفيلم يصف ويصور ساعات من أعمار شخصيات بالغة الاختلاف والتباين، بينما جمعتهم الصدفة والسلطة والأزمة الحادة التي كانت تمر بها مصر في فترة ما بعد الثلاثين من يونيو 2013، عندما تم إقصاء الإخوان المسلمين من الحكم.. هذه الأزمة التي تسببت في مصادمات ومواجهات دموية ما بين جموع الإخوان والمتعاطفين معهم ومناصريهم من ناحية، وما بين السلطة ممثلة في الداخلية بشكل أساسي، والكثير من فئات الشعب المصري المتنوعة التي استقرت رغبتها وتصميمها على التخلص من الحكم الإخواني بأخطائه الفادحة وحماقاته الكثيرة.

اجتمعت إذن عينة من كل هذه الفئات داخل صندوق سيارة الترحيلات الرثة الأشبه بتابوت متحرك له نوافذ صغيرة، وبدأت عندها سيمفونية إنسانية من الصراع والتعاطف والجدل والألم والحزن واليأس والأمل.

كان ذلك هو الاشتباك الحقيقي، كل من في السيارة يريد بطبيعة الحال أن ينجو بنفسه وبمن يحب، ومعظمهم يريد أن يرى خصومه وأعداءه (أو من يتصور أنهم كذلك)، وقد أصابتهم الهزيمة والذل وحتى الموت، وقليلون جدا في البداية من احتفظوا بقدر من العقلانية والإنسانية في خضم حالة الهياج ورغبة الكل في الانتقام من الكل تقريبا.

وتمضي مدة الفيلم، التي حفز فيها صانعوه درجة غير مسبوقة لدى المشاهد من حالة لا أجد لها ترجمة دقيقة في العربية وهي الـ Intensity التي يمكن وصفها بمزيج من التوتر الحاد والقلق والإثارة في نفس الوقت.. لا تجد فيها موضعا لأدنى شعور بالملل حتى في المشاهد الهادئة نسبيا، والتي تلتقط فيها أنفاسك بالكاد مع لمحة من التواصل الإنساني الإيجابي الصادق بين الفرقاء وبين من يكنون لبعضهم البعض في الأحوال الطبيعية كل كراهية وغضب ورغبة في الإيذاء.. ضحكة هناك وتعاطف مع حالة تبعث على الشفقة هنا، ونعود ثانية إلى المشاهد الحادة السريعة التي يتضافر فيها العنف والخوف وكل شرور البشر وحقاراتهم مع أنصع ما فيهم من خير ونبل وتيار دافق من المشاعر الأخرى التي يصورها كل من أبطال العمل بطريقته بدون أدنى لمحة من ابتذال أو افتعال أو مبالغة.

الفيلم يستثير بداخلنا صراعات لا تقل حدة عن تلك التي تجري على شاشته، ويضع المشاهد الواعي في مواجهة صعبة أمام ذاته حينما يرى جانبا مضيئا في كل شخصية تمثل طرفا يكرهه أو يعاديه، ويرى أيضا جانبا وضيعا ومنحطا في كل من ينتمي أو يتبنى وجهة النظر الأقرب إليه.

وهكذا تتطور الأحداث في مدة الفيلم القصيرة بلا ذروة واحدة وبلا نهاية واضحة أو مريحة، وتبقى هذه الحالة من التوتر وعدم الراحة مع المشاهد لفترة طويلة بعد خروجه من القاعة كهدية من صناع الفيلم لتحافظ على المشاهد والكلمات والأصوات في ذاكرته طويلا، وتبقي ذهنه في حالة تأجج بالتفكير في آثار تلك المواجهة الإجبارية مع الذات.

لا توجد الصدف كثيرا في هذا العالم، لذا فإن توجيه المخرج وعمله الدؤوب كانا بالتأكيد وراء تمكن جميع أبطاله بلا استثناء من تقديم أفضل أداء يمكن رؤيته، أضف إلى هذا العمل الشاق جدا والذي يظهر بوضوح في صنعة الفيلم نفسها على الشاشة.. من الكادرات والزوايا التي لا تدري كيف جاءت بهذه السلاسة، بينما تلتزم الكاميرا بلا هوادة بعدم الخروج أبدا من بين الجوانب الأربعة للسيارة الضيقة بائسة الإضاءة.. تلك الزوايا والكادرات والانتقال من شخصية لأخرى ومن حالة لأخرى، مع الموسيقى الخشنة التي تترك خدوشا في الروح، والتي استخدمت في لحظات قليلة جدا ربما كانت أهم لحظات الفيلم وأكثرها تأثيرا لتضخم من قدرة هذا التأثير، وتبث في دراما اللحظة طاقة أكبر.

وتجتمع الموسيقى مع الاستخدام البارع للعناصر البصرية شديدة الارتباط في أذهاننا بتلك الفترة، مثل الألعاب النارية التي استخدمت كأسلحة ومصابيح الليزر التي ملأت سماءنا وشوارعنا بشبكات خضراء متراقصة، لتصنع جزءا مهما من هذه الحالة الممتعة التي يخلقها الفيلم.

كل هذه العناصر تتضافر مع سيناريو مكتوب بعقلانية لا تنتقص من إبداعه، وانتاج يظهر على الشاشة بوضوح بالغ أنه خاض في مناطق شديدة الوعورة سياسيا ورقابيا وخرج بأقل خسائر ممكنة، وفلسفة عامة حكمت صناعه منذ البداية بأنهم لا يرغبون في تقديم شياطين أو ملائكة، ولا ينوون إطلاقا مناصرة جانب تجاه الآخر، وهذا ما جعل الفيلم قبل إطلاقه عرضه لهجوم مرير من كل الأطراف التي تريد كالعادة أن تظهر وجهة نظرها وقناعاتها فقط، وأن يعمل صناع العمل كأبواق مجانية لديهم، وهذه صدمة حادة وجهها الفيلم للجميع تقريبا، إلى جانب الصدمة الأكبر طبعا وهي القيمة الفنية العالية التي جلبت الإشادة من أهم صناع السينما في العالم لعمل في رأيي لا ينتظر شهادة من أحد لكي يتخذ مكانه إلى جانب أجمل أفلام أنتجتها السينما المصرية في تاريخها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top