ريهام مهدي تكتب: سلام على من عبروا بـ"خفة" بعد أن حكوا عنا كما لم نخبر أحدا قط

​حين قدم \”محمد خان\” في فيلمه \”في شقة مصر الجديدة\” كادر \”تهاني\” وهى تقف وحيدة على رصيف المحطة وبجانبها لافتة كبيرة \”القاهرة\” تبدو وكأنها توشك أن تبتلعها، كان يطرق طرقًا خفيفًا على حكايا تشبهنا.. نحن الفتيات القادمات من أشلاء مصر المنسية، الباحثات عن صوت ليلى مراد، فالتهمتنا القاهرة بموسيقاها الصاخبة للمهرجانات، وابتلعتنا بتهشيم أحلامنا الهشة في معركة غير متكافئة لتكسير عظام لا زالت تبحث عن متكيء في عالم يتحدث عنهن دون أن يتكلف العناء أن يراهٌّن بالفعل.
نحن القادمات من عوالمنا المغلقة نمارس فعل الانتظار المتأفف على أرصفة الحياة، نعود إلى القاهرة التي تصفعنا بـ\”أول\” قلم في وسطها الشهير، فندرك مدى صعلوكيتنا ويتفتح وعينا الغض على الشر والأذي الذي يمارس بأريحية وبالمجان في العالم، ونئن في صمت لأننا نعرف أننا لا نستطيع أن نعود إلى مدينتنا، فنروي خيباتنا، ولا نعرف السبيل إلى النجاة في شبكتها العنكبوتية سوى ممارسة مهارة الطفو أكبر قدر ممكن.
نعود إليها لا لنفصح عن سادية أرواحنا، بل لأننا صرنا جزءًا من لعنتها، كما صورها لنا \”خان\”.

جزء من صخبها.. ألمها.. خذلانها.. دوائرها التي لا تنتهي من الفراغ، والصخب في آن واحد، بل وعفاريتها أيضًا.. شققها المسكونة بأرواح قادرة على الغناء في عتمة الليل. فتوقظ شياطين الروح التّواقة إلى معرفة ما وراء الحكايا.
نعود إليها مكرهين تارة، ومحبين تارة أخرى، نحن فقط نعود فهى جزء من لعنتنا، هي جزء منا. حتى وإن تحولت للافتة كبيرة تلتهمنا في كل مرة، نتخلف فيها عن قطار نتمزق بين محطاته بين ما يتوجب علينا العودة إليه وبين ما نود أن نهرب منه، لنكتشف ذواتنا.. نعود ونحمل ذات بوصلة الروح التي تستعد في كل عودة لأن ترتج عقاربها تيهًا وكشفًا.

**********
إبرة وخيط.. ورحم:

​يحدث أننا حين نستعد للرحيل في أولى طلعاتنا الشكفية لاكتشاف عالم أكبر من عالمنا الضيق، يهيء لنا أننا استعددنا تماما لما ينتظرنا.. حين يسأل البطل البطلة ساخرًا: \”إنتي شايلة إبرة وخيط في شنطتك من المنيا؟ \”يفتح\”خان\” عينًا سحرية تنظر داخل ذواتنا نحن الفتيات اللاتي لكي نوحي لمن حولنا ألا يقفوا في طريق تخطينا لعتبة الخوف بادعاء أننا مستعدات وحاملات \”عدتنا\” كاملة.. ينظر إلينا من وراء عدسته السحرية ويضحك من فرط سذاجتنا، فنحن نستطيع أن نحمل بكرة خيط وإبرة للمدينة الكبيرة، في نفس ذات الوقت نتيه تماما عن تذكر الشاحن! الحبل السري الذي يربطنا بالحياة التي نهرب منها.
في جمل بسيطة متتابعة تنساب كتدفق نهر لا يجد صخرة واحدة تحول دون الكشف عن \”حكايا\” لم نروها لأحد، يقف \”خان\” وكأنه رأى واستمع للعديد من حكايانا، وعاش دهرًا في حقائب الرحيل التي نحملها على أكتافنا، وربت برفق وبضحكة صافية على سذاجتنا المروعة ونحن نظن أن لدينا ما نريده من \”عدة\” لمواجهة العالم.

**********
\”أنا اتزغفت!\”:

أن نقع في الحب باختلاف التوقيت المحلي لقاموس اللغة ​بلا أي اصطناع، صنع \”خان\” مساحة آمنة بين البطل والبطلة، مهدت لأن يجد الحب طريقه إليهما، فقفز بكل خفة فوق أسطورة الحب منذ النظرة الأولى.

اعتقنا \”خان\” بتفاصيله الدقيقة من قاموس اللغة.. أن ندور في قدسية أن الحب حين يأتي تجد قلبك وقد انخلع من مطرحه، ففي حدوتة الفيلم الحب يأتي بـ\”خفة\” وبساطة.. بساطة الحوار الكاشف بين اختلاف اللهجات للبطل والبطلة، والتي يتخذها البطل مثارًا للسخرية من تلك الفتاة الساذجة المزعجة القادمة من أقصى الجنوب لتلقي على مسامعه: \”أنا اتزغفت\”، أو تؤكد له أن هناك \”بحرًا\” في المنيا، أو تنظر إليه نظرة السيدات العجائز العالمات ببواطن الأمور: \”أكيد غارت مني\”، لتتركه يضحك على سذاجة الفكرة أنها قد تمثل خطرًا على علاقته.

لكن التعويذة انقلبت عليه، فأحبها بالفعل بالرغم من سخريته المبطنة منها.
​عبر \”خان\” بخفة فوق أسطورة اللقاء الأول، واعتقنا من قوالب الحب الرتيبة.. كنا ننساب مع أبطال حدوتته بعذوبة، دون أن نسأل لماذا وكيف؟ كنا نرى الحب ونبتسم له وندبدب بأرجلنا كأطفال صغار في النهاية حين لم تنته الحدوتة بنهاية حلوة مش ملتوتة، حيث من المفترض أن يصارح البطل فيه البطلة أنه \”بيحبها من زمان\”.. تركنا نستشعر الحب كما يحدث في الواقع. بلا مقدمات.. بلا نهاية واضحة.. بلا توقعات، وذلك الحب الذي يجد طريقه للطرق على نوافذ القلب إذا ما تيقن أنها مفتوحة بالفعل لاستقبال صك المحبة.

**********

استلام صك المحبة:
​نحن ننمو وننضج في مجتمعاتنا النسائية، فأما المغلقة منها نهرب بعيدًا عنها، حين تتحول لسياط تجلدنا وتوصمنا بنواقصهن. ونهرب إليها حين تصبح رحمًا آمنًا يعيننا على تلقي الوحي؟ فنستعد لما ينتظرنا خارجها.

حين نخطو أولى خطواتنا في التمرد على دائرة النساء الواصمات، لا نستطيع أن نفعل ذلك دون أن نستبدلها بدائرة نساء تائهات عابرات متمردات أخريات.. نتشاطر معهن مخاوفنا التافهة بدءا من أن تنحشر ثنايا الملابس في مؤخراتنا فنبدو حمقاوات أو مدعاة لسخرية الآخرين، مرورًا بميلنا الغريزي للتجول بملابسنا الداخلية التي لا نتعمد بها الإثارة بقدر ما نمارس حرية مسلوبة في مساحاتنا الآمنة، ونهاية بهوسنا المرضي من أن يتركنا من نحب، فنبكيه ونبكي أنفسنا، ونستدعيه بمحاولات انتحار مصطنعة نعلن فيها بلوغ منتهى اليأس وتهشم الذات الكامل وترجوه للعودة، فتتحقق النبوءة وتعود، فنتشارك جميعنا \”زغروطة\” فرح كانت بالأمس صرخة نحيب وألم.

لا نستطيع أن نفعل ذلك دونهن.. دون السند الفردي في أبلة تهاني، التي تعدنا أن كتاب الحواديت لم تكن حدوتته ملتوتة، إلى صاحبة السكن والملاذ والخبرة التي توصينا بمواصلة غناء لحن الحب؟ وسيبي قلبك يبقى دليلك، وحبي دون أن تتقيدي بمحطات قطار الأزمنة.

كيف غزلت كل حكايانا ورويتنا هكذا يا \”خان\”؟
**********
أن تقعي في الحب مع \”مش عارف\”:

\”يحيى\” البطل عاش قصتي حب، أولاهما مع \”داليا\” التي تقدم نموذج الفتاة التي تؤمن بحريتها وحقها في علاقة مفتوحة مع شريك لا تطالبه بمسئولة مباشرة، سوى أنها تقرر في لحظة ما أن ترتقي بالعلاقة لما تريده حقًا \”طفل\”.

يفاجئها \”يحيى\” بارتباكه وحيرته ورسمه لدوائر من فراغ.. يبحث فيها عن ذاته دون أن يمنحها معنىٍ واضح.. ماذا يريد بالفعل؟
والقصة الثانية عاشها مع \”نجوى\”، والتي يبدو أنه أحبها بالفعل بالرغم من احتقاره لوجودها في حيز حياته في البدء، ولكنه يعود فيرتبك ويكتفي أن يصل بها لمرفأها الآمن، ويتركها تمضي دون أن يستبقيها، أو يحاول ذلك.
اتخيل كثيرًا جزءًا ثانيا للفيلم، سيبدو مملًا ورتيبًا بشكل متعمد، ليصف \”يحيى\” الذي يمارس فعل الحياة من خلال الارتباك والتوحد مع جملته الشهيرة في الفيلم: \”أنا مش عارف أنا عايز إيه! \”
لم يكتف \”خان\” بنموذج \”يحيي\” اللي \”مش عارف\”، لكنه من ناحية أخرى، قدم لنا الحب بزاوية رجالي أخرى، لكنه ليس من جيل أصغر.

المحبون الوحيدون، كانوا أناسا فوق الخمسين عايشين ع الماضي.. واحد عايش على ذكرى مراته اللي ماتت، وواحد عايش على ذكرى حبيبة محبتهوش، بس هو حبها لمدة 10 سنين، ولما اتفارقوا بعتلها \”فات المعاد\” على شريط كاسيت، فإيقاع العنصر الرجالي في قصص الحب في الفيلم إيقاع \”ممل\”، وكأنه عايز يقول لربما أن الرجل في حبه مرتبك لدرجة الملل؟ أو بالأخص حين يكون الرجل \”مش عارف\” أو حتى لما بيعرف يمارس سرعة خاصة به وحده، قادرة أن تفقده فرصة الحب حين تسنح له تارة أخرى، كما حدث مع \”عيد ميلاد\”.. لربما.. لا شيء مؤكد سوي أنه حدث.


**********
ولادة:

​يأخذك الفيلم لرحلة \”نجوى\” للقاهرة للبحث عن أبلة تهاني/ رمز الحب، أو لربما هي رحلتها الخاصة، إنها تكتشف وتختبر تعريفها للحب اللي صدقته من صوت ليلي مراد وهي بتقول: أنا قلبي دليلي.
قلب نجوى كان دليلها في هذا المشهد، لأنها بكت في لحظة تستوجب الفرح.. البكاء الذي يليق بعظمة لحظة ولادة للحياة.. هي مارتبتش تعيشها.. هي اتحطت جواها وبقت جزء منها، فالحياة منحتها سرها المقدس.. سر التحول الإنساني الهش اللي بيكشفك قصاد روحك بلا أي مقاومة.. إن الحياة ذاتها هي المعجزة.. السر.. الأيقونة. الطفل لما بيتولد بيبكي، لأنه بياخد صك الحياة ومعجزتها، وهنا بيسلم الصك ده لتهاني؟ فبتبكي وهي بتتلقف منه السر.. الحياة في لحظتها الهشة الموجعة اللي بتستجلب البكا ليكون أكثر صدقًا من الفرح ذاته، فتقترب عدسة الكاميرا مع عدسة روحك، وتتعرى بفعل هشاشة اللحظة وتتوحد وتبكي.

تهاني في مشهد البكا المصاحب للدهشة المرافق لمعجزة أنك بتشوف حياة بين إيديك وبتحس بقيمة كل الأشياء الصغيرة.. البكا.. إنها لربما كانت حتة منها بتتمنى إنها تكون أم، واللي الفيلم ماقلناش برضه هي كانت عايزة تبقى أم، وأكيد ده يليق بفتاة في الـ 30، لازم بعرف مجتمعها تتجوز أم لا؟ والحقيقة إن كويس إن الفيلم ماقلناش على جزئية الأمومة دي، علشان يخلينا نكمل خيال إن رحم الست مش بيتهيأ لمنح الحياة إلا لما هي نفسها تتهيأ لفعل الحب، وتلاقي تعويذتها الخاصة به.
ولربما علشان \”خان\” يفضل يدهشنا بمعرفته عن عالم الست في لحظتها الهشة وتأرجحها بين احتياجها إنها تكون أم وفي نفس الوقت عجزها إنها تحقق ده.
إزاي دخل في رحم \”الست\” وعرى هشاشتها كده؟ لا يوجد سوى تفسير واحد: أن حبه للحياة اللي أكبر من تصنيف راجل وست، كان كبيرا ومتصالحا لدرجة أن الحياة نفسها إدتن سرها، فبقت مية روحه لاقطة كل خفايا الست.. الجسد اللي مايشبهوش من بره، لكنه متبحر في عمقه لدرجة مخيفة ومريحة.. وكاشفة.


**********
نهاية التعويذة:

يسطر \”خان\” في نهاية حدوتته إلقاء التعويذة على المشاهدين، ليستكمل مشهدًا قدمه العظيم شارلي شابلن في فيلم \”أوقات حديثة\”، حين نمضي في نهاية العالم بلا طعام، بلا عمل، بلا سند.. حين يعبر الفرح بجانبنا دون أن نكون جزءًا منه.. سنعبر فقط حين يتكأ أحدنا على الآخر.. حين لا نكف عن ترديد تعويذة الحب (0125136240).

فسلام على روح أحبت الحياة، فصاغت تعويذتها، وروت عنّا حكايانا، فبادلتها الحياة، وبادلناهم حبًا مضاعفًا.. سلام على من عبروا بـ\”خفة\”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top