جمله ألفتها عيوننا في كل طرقنا، حتى إنها اصبحت لا تستحث نظرنا للالتفات إليها، \”تبرعوا لبناء…\”
يأتي خلف كلمة بناء، أحد الأسماء التي تطلق على بيوت الله من كنائس ومساجد، حيث توضع الصناديق في الشوارع لجمع الأموال لبناء بيوت لذاك الله، وكأنه لاجئ لا بيت له ولا مأوى، في انتظار تلك البيوت المزخرفة في بهرجه وتكلف حتى يسكنها.
تلك البيوت التي تتكلف الملايين والملايين من الجنيهات والأموال الطائلة، وكأن الله لا يسكن سوى تلك القصور التي يبنونها له!
رحمة بعباده الذين ليس لهم مأوى، ولا سكن، ويفترشون أرضه ويتدفأون بسمائه، أفضل من بيوت مزخرةه تركها وهجرها منذ زمن بعيد، لخلوها من المحبيبن والمريدين له، وامتلائها بمن يسترجون جنته واتقاء ناره، لا حبا فيه، ولا طمعا في العيش بقربه، وبقي هو الغني الذي لا وريث له، فيستعطفه الرعاع ليحصلوا منه على ما يستطيعون أن يتحصلون عليه من ثروته، كطمع أبناء الجبلاوي في وقفه، لا في العيش في حضرته المباركة.
نسيتم يا هؤلاء أن الجنه والنعيم الأبدي، لا هو الوجود في تلك الحدائق والفاكهة والخمور، وكل تلك الملذات المادية، وإنما النعيم هو الوجود في حضرة ذاك الجمال البهي، الذي تصور ظله في عذوبة صوت فيروز وجمال الشروق وإبداع بيتهوفن وعبقرية آينشتاين.
فكل هؤلاء وغيرهم، ما هم إلا صور ظلال لله وعظمته وإبداعه وروعته، فكيف لكم أن تصنعوا له ما يليق بمجد حضرته، ومع كل هذا البهاء والمجد الذي له، ارتضى أن يسكن بيوتا مصنوعة بأيدي البشر، وارتضى بأقل القليل، بل إنه ارتضى أن يأخذ من قلبك بكل ما فيه، مسكنا خاصا له، فكل ما يهمه هو بناء النفوس والقلوب، لا بيوتا فخمة لا يأتي إليها أحد. قلبه يعتصر ألما إذ يرى أحد أولاده يتعذب جوعا ويموت عطشا ويغرق مهاجرا بحثا عن مأوى، وأحدهم مشغول في جمع الأموال لبناء أحد دور العبادة المطعمة بكل مظاهر البهاء، لكنها ليس لسكنى الله، وإنما لتخليد ذكراه الشخصية بعد مماته، أو هربا من الضرائب في دولته، أو للإعفاء من دفع تلك الفواتير الخدمية للدولة، حيث إنه أخذ تلك الصبغة الدينية التي تعفيه من كل هذا، وحصل على الصيت الدنياوي، إنه هو ذاك الرجل الذي أوى الله الشريد في أحد دور العبادة خاصته، ونسي أن الله يسكن قلوب المتواضعين والفقراء والأيتام.. يتألم لألمهم ويجوع لجوعهم ويحزن لحزنهم ويفرح بفرحهم، ويستظل في دفئهم.
يا من جعلت من نفسك جامعا لمال لله، افتح قلبك لتعرف أين يريد هو أن يوظفها ويصرفها.. اعمل لحسابه بتلك الأموال التي جمعتها تحت اسمه، ولا تجعلها في حسابك الشخصي.
وانت يا هذا.. يا من تريد التبرع لبناء بيوت الله، اعلم أن كل جائع أطعمته، هو حجر في ذلك القصر العظيم الذي لله، لكنه القصر الخفي.. قصر المحبة والرحمة، واعلم وقتها أنك من المشاركين كأحجار الفسيفساء في رسم صورة الله على الأرض.
تبرعوا لبناء القلوب والنفوس.. وبيوت الله تملأ الشوارع والضواحي، لكن هل من مصليين؟!
هو هجر الكثير منها بحثا عن الضالين والمشردين والمتعبين، إذ ارتضى برحمته أن يذوق آلامهم ويشاركهم مأساه حياتهم، والتي اصبح كبار الأغنياء والمتدينين العميان سببا رئيسيا في تلك المأساة.
الله اصبح لاجئا.. لا لعدم وجود بيوتا له، لكن لعدم وجود قلوبا يرتاح فيها، حيث خليت قلوبنا من الرحمة، واصبحت الجدران والمنارات والمأذن مقدسة ومكرمة أكثر من النفس البشرية.
تذكروا أننا أثمن ما خلق.
تذكروا أننا على صورته ومثاله.
تذكروا هذا.. لعلكم ترجعون.