(1)
اداعب ابن صديقي ذو الأعوام الثمانية، وأسأله السؤال السخيف إياه، الذي يسأله كل الكبار لكل الصغار: \”بتحب مين أكثر بابا ولا ماما؟\”، ينظر إلي الطفل ويجيب سريعا: \”بحب الاتنين\”، لكن شعرت في نظرته أن هناك كلاما آخر خلف تلك الإجابه المحفوظة، والتي تقال لاتقاء الشر، فأعدت السؤال بصيغه أخرى: \”بجد قل لي، ووعد اللي حاتقوله سر!\”، مع ابتسامه كبيرة، صمت الصبي قليلا، وقال: \”ماما\”، ولم يكمل، فأستزدته: \”إشمعني ماما يا حبيبي؟\”، فيطيل الصمت أكثر هذه المره، ثم يتلاعب بأصابع يده بعصبيه ظاهرة، ويقول: \”أصل بابا دايما بعيد عني وعن ماما، يا في الشغل، أو في البيت بيتكلم في التليفون أو بيتفرج على التليفزيون، ومش بيلعب معايا خالص، أما ماما قريبه أوي مني\”، وأكمل الصبي وقال: \”أنا مش فاهم ليه بابا بعيد كده!\”.
لم أجد إجابه علي منطق الصبي، إلا أنني أصطنع مكالمه تلفونيه ما.
(2)
اتأمل المرأه العجوز صاحبة الخمس وسبعين ربيعا، خِلسة وهي تصنع لي فنجان القهوة على السبرتايه الصغيرة أمامها، كانت منهمكة إلى درجة أنا لم تلحظ تمعني في وجهها الممتلئ بعلامات الزمن القاسية، لكنها لم تقلل أبدا من جمالها، أو الطيبة التي تطل من عينيها الزرقاء.
سألتها \”أخبار أولادك إيه يا خالة؟\”، كانت جارتنا، ولم تكن تربطني بها أي قرابة، لكنني تعودت أن أناديها بلقب \”يا خالة\” لأنها كانت تحبه، لم ترفع رأسها وترد، بل ظلت منهمكة في متابعة الكنكة المليئو حتى الحافة، حتى ظننت أنها لم تسمعني، وعندما هممت بإعادة السؤال، رفعت الكنكة من فوق شعلة السبرتاية وأغلقت الشعلة بغطاء نحاسي صغير، ثم صبت القهوة، وقالت: \”ولادي كويسين لِسَّه مكلمينّي من شوية، ربنا يكون في عونهم\”.
الخالة أمينة، أم لثلاثة أولاد وبنت، كافحت هي وزوجها المرحوم، في تعليمهم أحسن تعليم وتربيتهم أحسن تربية، حتى كانوا مثارا للغيرة من الكثيرين، لكن كبر الأولاد سريعا وتزوجوا، ولأجل مستوى تعليمهم العالي، جاءت لهم فرص لا تعوض في الخارج، ولم يقف الأب والام في وجه مصلحة أولادهم، وسافروا واحدا تلو الآخر، ولم يبق في البيت إلا هي وزوجها، ثم توفي زوجها وظلت هي في المنزل وحيده تجتر ذكريات أيام سعيده مضت.
لم يكن أولاد الخاله أمينة سيئين، بل بالعكس لم يتأخروا في مكالمتها يوميا، وإرسال الأموال والهدايا لها، وكانوا يقضون إجازتهم السنوية كلها معها، لكن كنت عندما أسألها عن أحوالهم، أرى الحزن يطل من عينيها ويصرخ من نبرات صوتها.
فقررت اليوم أن أكون أكثر جرأة وأسألها: \”هو أنت زعلانة من ولادك يا خالة عشان مش معاكي؟\”، ترتشف الخالة أمينة القهوة من فنجانها، وتقول: \”أكيد، حزينة إن بعد العمر الطويل ده أكون عايشه لوحدي، وللأمانة هما عرضوا عليا أروح لهم، بس أنا قلت لهم إني زي السمكة، لو خرجت من مصر حاموت بسرعة، بس زعلانه منهم، أكيد لأ، لأَن عندي مليون عذر ليهم، حتى لما في عذر مع الوقت ميقنعنيش، أفضل أدور على عذر تاني، عشان أرتاح\”.
تجرعت ما تبقى في الفنجان، وقالت: \”إنت عارف إيه اللي أسوأ من البعد؟\”، أشرت برأسي بأنني لا أعرف، فاستطردت وقالت: \”البعد إللي مالوش سبب، عشان كده أنا وهما بنفضل نخلق أعذار عشان نفضل مكملين\”
وغاب من على لساني أي تعليق.
(3)
أخرج صديقي من جيبه، علبة سجائر وشرع في إشعال سيجارة أخرجها من العلبة بولاعة كانت في يده، نظرت له مستغربا، فهو منذ أن رزقه الله بطفله الأول، وهو ممتنع نهائيا عن التدخين، فسألته: \”مش كنت بطلت؟\”، أخذ نفسا عميقا من سيجارته، ثم نفث الدخان في الهواء، وقال: \”من غُلبي\”.
صديقي متزوج من زميلة له منذ أيام الجامعة، شهدنا جميعا على قصة حبهم، رزقهم الله بثلاثة أطفال آية في الجمال، وبكامل الصحة، صديقي يعمل مهندسا بشركة مقاولات كبرى، ودخله المادي مرتفع، ولذلك كان حديثه عن \”الغُلب\” غريبا بالنسبة لي.
\”مالك يا صاحبي؟\”.. نفس آخر من سيجارته \”زهقان من مراتي!\”، وعندما لم أعلق، أكمل قائلا: \”تخيل بعد قصة الحب دي، وصدقني وأنت عارف أنا مش مقصر في حقها، بديها هي والعيال وقت، باخرجهم وباشتري لَبْس معاهم، حريص إن شغلي ودنيتي متاخدنيش منهم، وهي الحق يقال مش مقصرة في واجبتها.\”
غاظني ما قال، فقلت: \”طب ليه زهقان.. رخامة؟!\”، هز رأسه نافيا وقال \”زهقان عشان هي بعيده عني.. في الأول كنت بقول العيال، ومرة أصل صاحبتها فلانة بتتجوز، و مرة أصل التانية بتتطل.. بقى لي سنين باديها أعذار لبعدها عني، بس خلاص، خلصت كل اللستة.. إحنا بنكبر والأيام بتجري مننا، ولو قضينا شبابنا في بُعد كده، أومال حنعمل إيه لما نكبر؟\”.
صمت صديقي وطال صمتنا.
(4)
\”هو ليه يا ماما تيته مش بتييجي معانا؟\”، سؤال كنت أسأله لأمي مع نهاية كل إجازه صيفية، واستعدادنا للسفر إلى محل عمل والدي خارج مصر، وكانت أمي بحنان معتاد، تُسمعني قائمة طويلة من الأعذار، لم أَعُد أذكرها، لكن مزلت أذكر غضبي لعدم اقتناعي بكل تلك الأسباب والأعذار للبعد.
كنت صغيرا، ولا أرى الأشياء إلا على حقيقتها، فالبُعد بُعد مهما كانت الأسباب، وها أنا كبرت وتعلمت، أن أعطي للبُعد أعذار حتى لا يقتلني البعد عن من أحب وما أحب، ويا ليتني ظللت صغيرا لا أبرع في صنع الأسباب والأعذار، ولا أقبل البعُد عن أحبائي.
(5)
كان أبي يقول نقلا عن أبيه: \”كتروا من اللمة، لأن الفراق لا مفَر منه\”، سألت والدي عن لماذا لا مفر منه!
فقال والدي: \”يا ابني خلقنا الله لكي نتطور ونُطور، فالطفل يفارق رحم أمه الذي مكث فيها تسعة أشهر، لأن تطوره يجبره عن البعد عن رحم أمه، الطفل الصغير يفارق أمه ويذهب إلى المدرسة، وأسأل أمك كيف آلمها فراقك لتلك السويعات، لكنه فراق وبُعد لابد منه، لكي تتعلم وتتطور قدراتك العقلية.
ومع كل تطور تفرض علينا الحياة بُعدا آخر، فنحن نفارق أهلنا من أجل العمل والزواج، والأب يفارق منزله لساعات وربما أيام وشهور، من أجل لقمة العيش، وكذلك الأم في بعض الأسر.
إذن يا بني، كما ترى فالبُعد كًتب علينا منذ الولادة من أجل التطور، لكن المصيبه تكمن في أن يبلعنا هذا البُعد، ويتحول إلى بُعد من أجل البُعد، فعندما يفتقر البُعد إلى أسباب التطور، يتحول إلى شر يكتم على أنفاسك ويملأ قلبك جفاء.
فمع زوال هدف البعد الأصلي وهو التطور، يخلق الإنسان أو شيطانه، أسبابا أخرى واهية وأنانية، لكنها كافية لإسكات ضميره وموت قلبه، وبهذا يصبح البعد نقمة ومرض، لا تطور ونجاح.
احذر من هذا البُعد يا بني، قبل أن يدركك أنت أو من تحب.. البُعد الأكبر والفراق الأطول، وهو الموت.
يا بني، أحضن من تحب وأقض معهم وقتا كافيا.. حضنا ووقتا، يعوضاك غيابهم أو يعوضهم هم غيابك، إياك والبُعد بدون أسباب، فهو لعنه تصيب القلب والروح.