لم تبارح سوريا قلوبنا جميعا قط، قد نختلف سياسيا وفكريا في موقفنا مما يحدث هناك، ولكن من الأكيد أننا جميعا نتفق على أن ما يحدث في سوريا طامة كبرى على أهلها وعلى كل العرب، وبأنه لم يدفع ثمن هذا التناحر المذهبي والطائفي والدولي سوى أهل سوريا.
في المقال السابق تحدثت عن مقابلتي لبعض السوريين الذي نجحوا في الوصول إلى كندا كلاجئين، وكانت حكايتي الأولى مع بسام وقصته المؤثرة والمؤلمة جدا، وبعد انتهائي من الحوار مع بسام، أكد لي أن قصته لا تعتبر مأساوية مقارنة بآخرين.
ووعدني بسام بأن يعرفني على أم علي، امرأة سورية باسلة، لديها ولدان، وأصبحت أرملة قبل وصولها إلى كندا، حين قتل رجال داعش زوجها.
حذرني بسام، إن هي وافقت على مقابلتي، ألا اضغط عليها، لأنها عانت بما فيه الكفايه، وبأنها ترفض أن تروي لأي إنسان قصتها، وأكد لي أنها ترفض تماما التصوير، فطفرت أؤكد عليه بأنني لا أنتوي تصويرها، وأن كل ما أريده هو توثيق معاناة أهلنا في سوريا، كَتذكٍرة ودرس للأجيال القادمة.
غاب عني بسام عدة أيام، ثم قابلته صدفة في نفس المقهى الذي كنت قابلته فيه من قبل، لم أشأ أن أسأله عن أم علي، حتى لا أظهر بمظهر الملهوف، ولكن هو الذي بادرني بقوله: \”لا تقلق خيي، لم أنس وعدي لك، ولكنها لم تلن بعد، ولكن أوعدك أن تقتنع في النهايه\”، ثم تركني على أمل أن أحصل على قصة تلك المرأة.
بعد تلك المقابله جاءتني مكالمة من بسام، يزف إلي بشرة أنها وافقت على مقابلتي، ولكن بشروطها، وعندما سألته عن تلك الشروط، فقال لي: أولها لا تصوير، ثانيا: أن لا يحضر أحد من اللاجئين السوريين المقابلة، وأخيرا: أن لا اكتب قصتها باسمها الحقيقي.
وافقت بدون تفكير، وتوجهت إلى بيتها في الميعاد المحدد، طرقت باب منزلها الصغير في إحدي مناطق كندا الهادئة، فتحت لي امرأة على أعتاب العقد الرابع من العمر، تتمتع بذلك الجمال الشامي المميز، عرفتني بنفسها، واتفقت معها أن اسميها أم علي، حتى لا يعرفها أحد كما طلبت هي، وبعد التعارف، قدمت لي فنجان قهوة مع بعض الحلويات السورية، ولكن هالني مسحة الحزن الباديه على وجهها, ولم استطع تجاهل نبرة الانكسار التي أسمعها في صوتها.
سألتها لما كل هذا الحزن، صمتت قليلا وأجابت بعدة أبيات شعر من أشعار تميم البرغوثي يقول فيها:
أَنَا عَالِمٌ بالحُزْنِ مُنْذُ طُفُولَتي
رفيقي فما أُخْطِيهِ حينَ أُقَابِلُهْ
وإنَّ لَهُ كَفَّاً إذا ما أَرَاحَها
عَلَى جَبَلٍ ما قَامَ بالكَفِّ كَاهِلُهْ
وبكت، هدأت قليلا، ثم شرعت في حكايتها، وطلبت مني أن أسجل كل كلمة، لأنها تنتوي أن تقول ما لم تقله لمخلوق قط، وها أنا أحمل إليك عزيزي القارئ، حكاية أم علي السورية كما هي بلا تدخل، اللهم إلا تحويل ما قالت إلى العربية الفصحى، والله على ما اقول شهيد.
أم علي:
تزوجت زوجي \”جمال\” قبل الثورة بعشر أعوام، ثورة! لا أدري إن كان هذا المسمى يصلح لوصف ما يحدث الآن!
المهم، كان زوجي يملك دكانا صغيرا تبيع كل شيء، أغذية، مشروبات، وأدوات زراعية، فـ \”الرقة\” تشتهر بالزراعة لقربها من نهر الفرات -كما تعلم- وكان صافي الربح من هذا الدكان وفيرا، والحمد لله، كان يكفي بيتنا وبيت حماتي وبنتها الصغيرة التي لم تتزوج بعد.
لم يكن \”جمال\” معارض للنظام قط، بل كان أبوه يعشق جمال عبد الناصر و فكره الاشتراكي، ولذلك أطلق اسم \”جمال\” على زوجي كاسم الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، وبناء على تلك القناعات، لم يكن زوجي يرى في نظام حافظ وابنه شرا كبيرا، بل بالعكس، كثيرا ما كان يفتخر بمواقفه العروبية وبأنه محسوب على دول الممانعة (اسم أطلقته على نفسها الدول التي تعارض السياسة الأمريكية في العالم العربي، وتؤيد حركات التحرر الوطني العربية، وكان هذا المحور مؤلفا من دول هي سوريا وإيران وحركات هي حزب الله في لبنان)
لم أكن أتفق مع زوحي في رؤيته تلك، فأنا أبي كان من المعارضين الشرسين لحافظ الأسد، وكان يكتب في الجرائد المعارضة الدولية، وبعض المنشورات المحلية في سوريا، ضغطت المخابرات عليه للتوقف بشتى الطرق، فرفض أبي واستمر في كتاباته.
كنت صغيرة، حينما استيقظت على أصوات طرق عنيفة على باب منزلنا، حتى انخلع الباب، ووجدت أنا وأخوتي ما لا يقل عن عشر رجال مدججين بالسلاح يلبسون زيا أسود موحدا، اقتحموا منزلنا الصغير محطمين كل شيء كان في طريقهم، وتعدوا بالضرب على أبي ثم أخذوه معهم.
لم نسمع شيئا عن أبينا، إلا بعدها بشهر، عندما أرسلوا إلى أمي طالبين منها أن تأتي لتستلم جثه أبي، والذي توفي -على حسب تقرير الطب الشرعي- بسبب هبوط حاد في الدورة الدموية، وذلك لتناوله جرعة كبيرة من المخدرات! المضحك في الأمر، أن أبي لم يكن مدخنا، فما بالك بالمخدرات؟!
لم يسمحوا لي بتقبيل أبي قبل دفنه، لأنه حرام -كما قالوا لي وقتها- ولكن وصل إلى مسامعي من حوارات الكبار، أن أبي كان مشوها من التعذيب، وأنهم لم يكونوا يريدون لي أن أرى أبي بتلك الحالة.
حرصت أمي على تربيتنا أنا وأخوتي بعيدا عن أجواء السياسة، ولكن ظلت في قلوبنا غصة وكراهية كبيرة لنظام آل الأسد.
عندما قامت الثورة، تحمست لها جدا، وشعرت أنه أخيرا حان وقت الانتقام لأبي، ومع النجاحات التي حققها الثوار على أرض سوريا، بت اشعر أن اليوم الذي أرى فيه بشار مقتولا قد قرب، وبطبيعة الحال لم يكن زوجي داعما للثورة، إلا أنه والحق يقال لم يكن ضدها، ربما كان متوجسا وكان يقول دائما أن لا بديل لبشار إلا الحكم الديني المتطرف، لم أصدقه وقتها وكم أنا نادمه على ذلك.
لن أحكي عن تفاصيل المأساة التي عشناها، ولكن مع الوقت تغيرت الثورة، إلى جنون وإلى حرب أهلية، لم نعد نعرف من مع من، ومن ضد من، حقا اختلط الحابل بالنابل، ووقعنا نحن عامة الناس بين شقي الرحى، جنون النظام، وعته التيارات المتطرفة، والتي تبلورت -لاحقا- إلى داعش.
بعد إنسحاب رجال بشار من \”الرقة\” وتكبدهم خسائر ضخمة، تصارعت جميع التيارات على من يبسط سيطرته على \”الرقة\”، وفي النهاية انتصرت داعش، وأعلنت \”الرقة\” مدينة إسلامية تابعة لدولة الإسلام في العراق وسوريا.
في البدء لم يغضبنا الأمر، بل بالعكس عمت الفرحة المدينة، ولمّ لا؟! فها نحن تخلصنا من بشار ورجاله، وانتهي صراع التيارات المعارضة للسيطرة على أرضنا.
لاحظ أن ذلك الأمر أتى بعد شهور عديدة من القصف الصاروخي والمدفعي، والاقتتال المباشر وغير المباشر، فكنا حقا مرهقين وننتظر أي بارقة أمل.
في تلك الأيام الأولى، كنا نعامل رجال داعش على أنهم أبطال، وتسابقت كبار العائلات على الترحيب بهم، بل وبالغ البعض في الترحيب إلى حد إهداء قطعة الأرض إلى المقاتلين، ووصل الأمر ببعضهم إلى عرض بناتهم على مقاتلين التنظيم للزواج بهن!
تعلمت يومها، أن البشر بطبعهم جبناء، ولذلك يسارعون بإبداء الولاء والطاعة إلى الأقوى، ويبدو أن تقديم القرابين للحاكم هي عادة بدائية، لكنها لم تترك جيناتنا قط.
وطبعا مع انبطاح العامه بهذا النسق، ومع سلطة مطلقة لا تتبع أي رقيب أو حسيب للحاكم، من الطبيعي أن يتحول الحاكم -مهما كانت نيته- إلى مستبد، غاشم وقاس.
وفعلا ما أن انتهت الاحتفالات والتبريكات، حتى ظهرت نواياهم ضدنا، كان أول قرار: إنهاء مشروع تقسيم الدول الإسلامية، فلا سوريا بعد اليوم! وبأنهم يعلنون إقامة الخلافة الإسلامية الرشيدة على منهج الرجال الأولين، لم نتحمس للأمر، ولكن لم يكن بعد يؤثر على حياتنا اليومية، فلم يتذمر أحد.
ربما زوجي كان من القلة التي أبدت قلقها منذ اليوم الأول، ولكنه قلق ظل حبيس الصدور، إلى أن جاء يوم إعلان الخلافة، حتى وجدت زوجي يدخل البيت ممتقع الوجه ومرتعش اليد، ويقول لي إنه يجب أن نرحل من هنا وفي أسرع وقت، لم استوعب خوفه، ولكن هدأت من روعه وقلت له إن الرحيل لن يكون بهذه السهولة، فلنا بضاعة في الدكان وقطعة أرض ورثها عن أبيه، واتفقت معه أن نرحل، لكن بعد بيع تلك الأرض والبضاعة بمبلغ كبير، وهذا لن يحدث إلا لو تروينا.. وافق على مضض.
وأصدقك القول، لم أكن أنوي الرحيل، لأنني كنت أرى أملا وخيرا في الحاكم الجديد، وكنت لا أفهم كيف نخشاهم وهم لم يفعلوا شيئا بعد، وكم أنا نادمة على غبائي هذا، يا ليتني طاوعته، فكل ما حدث بعد ذلك، وقع بسبب إثنائي له عن الرحيل السريع.
وفي أيام قليلة، خرج علينا التنظيم بعدة قوانين، كلها قوانين مجحفة ومقيدة للحريات والمرأة.. قوانين تدخلت في كل تفاصيل حياتنا.. ملبسنا، أوقات خروجنا، مستوى علو صوتنا، كيف نمشي، (ونون الجماعة اقصد بها نحن النساء في الرقة).. كل شيء كان ممنوعا ارتداؤه واقتناؤه في الشارع، بدءً من العطور مرورا بالمكياج وانتهاء بأي ملابس ملونة، ومن يخالف تلك القوانين يحاسب المسؤول عن تلك المرأة، زوجا كان أو أبا، ويقع عليه أقسى العقاب.
وكانت أسوأ القوانين التي وضعت، هو القانون الذي أقر بعدم أحقيتنا ببيع ما نمتلك إلا لرجال التنظيم، حتى لا يتسلل أحد من خارج المنطقة إلى داخلهم -على حسب قولهم- والقانون الثاني أن على كل فتى تخطى عامه السادس عشر، أن يسلم نفسه إلى جيش التنظيم حتى يجاهد في سبيل الله!
بدأ الخوف يتسلل إلى قلبي، والحلم تحول إلى كابوس، لم يبلغ ابني البكر سن الجهاد بعد، لكنه قارب، وازداد الأمر سوءا، بقبض التنظيم على أخي الأكبر، الذي كان يجهر بمعارضتهم، خصوصا القوانين الأخيرة، بتهمة التجسس علي التنظيم، ولم يذكروا لحساب من كان يتجسس أخي، وأعدموه في ميدان عام!
ليلتها لم أنم، وانتظرت زوجي حتى عاد من سهرته، واعتذرت له عن غفلتي، وبأنه يجب أن نرحل في أسرع وقت، احتضنني زوجي، وطمأنني بصوت خفيض أنه فعلا يعد الأمور حتى نرحل خلال أيام، وأعطاني ورقة بها اسم الرجل الذي سيهربنا إلى تركيا، ثم إلى كندا التي كان زوجي بدون علمي قدم لجوءا إليها عن طريق محام كان يعرفه، وأعطاني نمرة المحامي أيضا، قبلت يد زوجي على رؤيته الواسعة.
قبل رحيلنا بيوم، وجدت جلبة تأتي من الخارج، ودعوة من منادي ينادي في الناس للتجمع، حتى يشهدوا على إعدام مجموعة من الخونة!
لسبب ما -على غير عادتي- خرجت لأشاهد ما يحدث، وكانت الطامة الكبرى، وجدت زوجي ومجموعة من الرجال مكبلين مثل العبيد، وكانت تبدو عليهم آثار التعذيب.. ركضت وراءهم وأنا أصرخ وأولول، وما أن اقتربت من زوجي، حتى لطمني أحد الحراس على وجهي، صفعة كادت روحي أن تطلع بعدها، سحبتني بعض النسوة داخل منزل من المنازل.
لم اشهد إعدام زوجي، ولكن علمت بأنهم أتهموه بالخيانة والتآمر على الدولة الوليدة.
أغلقت باب منزلي على نفسي وأولادي، كنت أشعر بالخوف والضياع، ولا أعلم ما الذي علي أن أفعله الآن.
ولكن كانت الأحداث أسرع من تفكيري، فبعد ثلاثة أيام من قتل زوجي، حتى وجدت طرقا على باب المنزل، فذهبت لأفتحه ظنا مني أنه أحد المعزين، ولكن فوجئت بواحدا من كبار رجال التنظيم، ارتعبت وظننت أنني الأخرى سأعدم، ولكن ابتسامته اللزجة هدأت من روعي قليلا، لم أعرض عليه الدخول، وهو لم يحاول، فبقينا واقفين عند الباب.
انتظرت منه أن يقول ما يريده ويرحل، فلم أعد أطيق أي أحد منهم، ولم يجعلني انتظر كثيرا، فوجدته يقول: إنني امرأة جميلة، وها هو زوجي قد مات، فهم يخشون علي من الفتنة، وعلى أولادي من الضياع، لذلك قرروا أن يتزوجني هذا الشخص حتى يسترني! وأكمل كلامه بأن موعدنا بعد مرور العدة الشرعية.
أنهي كلامه بدون أن يسمع ردي، ورحل، دخلت منزلي وانهرت من البكاء.
استجمعت شتات نفسي سريعا، وقررت أن أحاول الوصول إلى المُهرب عن طريق الورقة التي تركها لي زوجي، وبعد عدة محاولات، توصلت إلى الرجل بعد مجهود كبير، والذي قال إن زوجي دفع كل الأموال المطلوبة لرحيلنا جميعا، وبأنه لولا أن زوجي كان يحاول أن يرحل بكل أصدقائه ومعارفه، ما كان ليقتل، وفي الغالب أن شخصا ممن عرض عليه الأمر قد وشي به!
مرت الأيام سريعا، حتى أتاني شخص بعلامة، في ليلة غير مقمرة، وبدأت رحلتي أنا وأولادي، بين الغابات والجبال حتى نصل إلى الحدود التركية، رحلة كلها معاناة (تحتاج إلى مقال آخر، ربما يوما ما سأحكيها).
سأقول لك سرا لم أقله أبدا، ولكن ربما لتوثيق بشاعة ما عانيناه نحن السوريون في تلك الحرب:
كانت عصابة التهريب تتكون من خمسة رجال، أربعة منهم أتراك، والخامس عربيا، لم يكن سوريا، ولكنه بدا لي عراقيا، وفي إحدى محطات المبيت، خرجت ليلا لأقضي حاجتي بين الأشجار حتى لا يراني أحد، وبعد أن أنتهيت، شعرت بمن يطوقني من وسطي بعنف، قاومت بشدة وصرخت، ولكن مع قوة الرجل وبُعد المكان عن الخيام، لم يسمعني أحد، أو ربما تجاهل الجميع ما يحدث، كجزء من ثمن الهروب، وتم اغتصابي من رجلين، لن أشرح لك كم كرهت نفسي، وفكرت في الانتحار، إلا أنني تحملت من أجل أولادي.
أطلت عليك، ولكن القصة أوشكت على النهاية، وصلت تركيا، واتصلت بالمحامي، الذي حزن بشدة لما حدث لزوجي، ووعدني أن يخرجني من هنا في أسرع وقت.
وقد كان، ها أنا أتكلم معك في منزل خيرا من بيتي، في بلد آمنة كريمة، عاملتني أنا وأولادي أحسن معاملة، ووفروا لنا العلاج والطعام والمال، وأخيرا شعرت بالأمان.
لكن أتعلم شيئا، لا أظن أنني سأعود إلى سوريا مرة أخرى، ولكن مازلت مع كل طلعة شمس أحلم بالعودة.
تلك كانت شهادة أم علي، لن أعلق عليها، لكن ما زال في جعبتي حكايات على لسان هؤلاء الأبطال، سأظل أحكيها كلما سمحت لي الظروف، لعل وعسى، يأتي جيل يتعلم من كل تلك المصائب.