النظر إلى الواقفين على جبل عرفات يبدو عادة سنوية مثيرة للتأمل، كيف أتى هؤلاء يا ترى؟ بعضهم ذهب بمدخرات تقاعده، بعضهم تكبدها بالتقسيط وسيعود ليسدد ثمن الأيام العشر لسنوات قادمة من عمره، أحدهم دفع 5000 آلاف جنيه (إكرامية) في السوق السوداء لتؤول إليه تأشيرة الحج بأسعار القُرعة المخفضة، وذاك الرجل هناك، هو صحفي يوالس الأمن طوال العام، يكذب ويكذب ويكذب، حتى يختاره اللواءات -ربما للمرة العاشرة- للحج على نفقات الشعب، يقيم في فندق الصفوة أو ربما أبراج مكة، ويتقاضى ألفي دولار أو أكثر بدل سفر.
الأمن -كما هو معروف- يستحوذ على 40% من حصص التأشيرات في بلادنا بالمخالفة للقوانين، ويوزعها على شبكات اللصوص والقتلة والأفاقين.
وزير الزراعة السابق (صلاح هلال) أيضًا كان في المكان نفسه ومعه 6 من أفراد أسرته، تكلفت رحلتهم المباركة 11 مليون جنيه -بالرشوة، طلب من (فودة) فيلا وعضوية بالنادي الأهلي ووادي دجلة وملابس (قُدرت وحدها بمائتي ألف جنيه) لابنه، ولكن لم ينس أن يتمسح بالشعيرة، والله مطلع ويعلم كم صلاح هلال يقف اليوم على عرفات وكم اختلسوا من أقوات الخلق ليتمكنوا من الصعود إلى الجبل، دون أن ينهار بهم أبدًا.
أتعلمون صديقي الكويتي الذي اشترى إجازة حج وهمية لمدة 40 يوما بألف وخمسمائة دولار، ولم يأت؟ لعله الآن يستجم على شاطئ ما ويشكر الله على هذا الكرنفال السنوي الذي يتذرع بيه للهرب من واجبات عمله، الجميع يشكرونه، وهذا الجيش الضخم من المراسلين المغروْرقة أعينهم بالدموع الآن أمام الكاميرات يشكرونه، نعلم أن عملهم الموسمي صار روتينًا لا روح به، لكنهم لا يزالون يبكون ويغرون الفقراء ببذل أموالهم في سبيل قضاء أيام قليلة هناك، حتى يستمر الكرنفال والبيزنس طويلا.
يبدو بيزنس الحج الآن مختلفا نوعيا عن أي نشاط اقتصادي آخر:
(١) الجمهور المستهدف يبلغ 1.5 مليار عميل محتمل والطلب دائما أكثر من العرض، لأن التجربة الروحية ليست كباقي التجارب الترفيهية والسياحية الأخرى، يصفه وزير الحج السعودي الأسبق، إياد مدني، بأنه يشبه \”عشرين بطولة سوبر بول (Super Bowl) في استاد واحد، والفارق أن الجماهير -2 مليون وقتئذ- تشارك جميعا في اللعبة\”.
(٢) لا توجد منافسة، إذ لا يوجد مقصد أكثر مركزية من مكة، حتى المشاهد الشيعية المقدسة لم تصرف أفئدة الشيعة عن مكة، ولم يتوقف الحجاج الإيرانيون عن التوافد إليها إلا بعد قطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين هذا العام؛ وبالتالي عدم وجود جهة لمنحهم تأشيرات السفر، المصريون أيضا صاروا أكثر تجاهلا لأضرحة الصالحين في مصر، فبعد عقود متتالية من مهاجمة الصوفية، لم تعد زيارة السيدة أو الحسين تلبي احتياج البسطاء إلى شد الرحال والانقطاع عن الدنيا يوما أو يومين لجل خاطر النبي ودينه، بل صار الدعاء في ضريح الحسين خروجا عن الدين، والبذل على أبواب السيدة قد فقد بالتدريج معناه، صار المعنى الوحيد للترحال هو مكة وحدها، والدعاء المستجاب هو الدعاء لحظة رؤية البيت الحرام للمرة الأولى، والتضحية هي الهَديْ ولا يقع الذبح إلا في مكة نفسها، وعلى الرغم من غياب الأيقونات، كتماثيل العذراء وصور يسوع والصلبان التي تعلق في المنازل، في الإسلام، إلا أن مكة أصبحت أيقونة في منازلنا، صلواتها تبث مباشرة طوال اليوم، صور الكعبة توضع خلفية للآيات القرآنية في لوحات التقويم الميلادي الدعائية التي توزعها الشركات التجارية على المستهلكين، باختصار: صارت مكة أيقونة لدين حاول كثيرا ألا تكون له أيقونة أبدًا.
هذه المكانة المركزية حولت أنظار المسلمين عن أي شيء غير مكة، وقدر أحد الباحثين رأسَ مال الحجاج والمعتمرين الذي يطير سنويا من مصر –وحدها- إلى خزائن المملكة بملياري دولار، وخزائن المملكة متخمة، ولكنها لا تزال تثرى على ثرائها بأموال شعوب غائصة في بِركة الفقر والجهل والمرض. ناهيك عن الهدي الذي لا يجوز ذبحه إلا بالحرم من أجل التصدق منه على \”فقراء\” مكة، وتفسيرات النصوص باقية لا يعاد قراءتها لأنهم يستفيدون من بقائها، حتى لو تبدلت المدينة، حتى لو صارت \”فقراء مكة\” كلمة هلامية، في البداية طلبوا من الفقراء تأشيرة، وهم يمنحونها فقط للعاملين والمستثمرين وأحيانا للزائرين من الدرجة الأولى –لمدة شهر واحد فقط- ثم شرعوا في إطلاق مشروعات تنظيم الأحياء العشوائية داخل مكة، حتى ضاقت مدينة الأضواء بالفقراء وأغلقت أبوابها في وجههم (وأغلقتها في وجه اللاجئين السوريين أنفسهم)، وتحولت مكة إلى مول تجاري ضخم، واليوم حين نبحث عن \”القانع والمعتر\” وعن \”البائس الفقير\” لا نجد إلا أناسا يرتدون ساعات (أوديمار بيجيه) و(روليكس) ويضاربون في البورصات العالمية.
(٣) هل تحتاج لجهاز إدارة الأزمات؟ الحقيقة لا، لأن الأزمات (بل والكوارث) يمكن تسويقهما لصالح البيزنس نفسه، تخيل أن 2000 سائحا لقوا حتفهم في بلد ما في نفس اليوم، إلام سيتحول مستقبلها السياحي؟ بالضبط، لكن الأمر مختلف هنا، في مِنَى سقط 2411 قتيلا أثناء أداء الحج في العام الماضي، لم تتسبب الكارثة، أو حوادث الحج السنوية المتكررة، في كساد أو ضعف إقبال الحجيج، فالقتلى شهداء أو ربما كان تساقطهم علامة حسن الخاتمة، بل وربما يحسدهم الأحياء على دفنهم بالأراضي المقدسة، ومع بداية الموسم الجديد كان الإجراء الوحيد المتبع هو الأساور الإلكترونية لتمييز هويات القتلى وزف خبر سقوطهم إلى ذويهم، وليس تأمين أرواحهم، يستفيد البيزنس كثيرا من ثقافة الموت هذه، أما القائمون عليه فلا يعرفون إلا فقه الحياة وتحقيق الأرباح.
يبدو تسويق الأجنحة الفندقية في مكة –بعضها أجنحة ملكية تكلف 5.880 دولارا عن الليلة الواحدة- مختلفًا أيضا، فبدلا من البارات الصغيرة (Hotel mini bars) وموزعات الكحوليات (Liquor Dispensers) في الغرف الفندقية الغربية، تجد منضدة عليها مصحف مفتوح وعلى أخرى أطباق تحوي تمورا فاخرة وفاكهة مستوردة ومكسرات متنوعة (الكاچو من فيتنام والماكاديميا من غواتيمالا أو البرازيل)، وأحيانا تشكيلات شوكولاتة تتخطى أسعارها 270 دولارا، \”الڤيو\” هام أيضا، فمن وراء الزجاج السميك يظهر الحرم المكي مباشرة في الأسفل، الكعبة تبدو صغيرة جدا، وكأنها حجر أسود صغير يحاذي أقدام الفنادق العملاقة: فيرمونت وكونراد وموڤينبيك و\”دار التوحيد إنتركونتننتال\” (نعم، هذا اسمه!)
تجسد الأبراج العملاقة 15 مليار دولار تقف على سطح الأرض، يبلغ ارتفاعها 600 مترا، تزدان ساعتها بالذهب وزجاج الموزاييك، يذكرنا هذا بقصة شائعة، في القرن السادس بنى قائد عسكري مسيحي كنيسة (القليس) محاولا منافسة كعبة قريش، كانت منافسة صعبة، فكعبة قريش تمايزت عن الكعبات الأخرى المتعددة داخل شبه الجزيرة العربية لكونها ملتقى للقوافل (ترانزيت) ثم لجمعها بين تماثيل الأرباب المتعددة حول البيت، ألجأت هذه العوامل (أبرهة) إلى تزيين كنيسته المنافسة بالسلالم المرمرية والطلاء الذهبي والأخشاب الثمينة المرصعة بالعاج والرخام البراق والأروقة المزينة بالفسيفساء (وهي أشجار مزينة بنجوم من الذهب)، ورغم ذلك فشلت الكنيسة –حسب روايات العرب- في جذب الحجاج واضطر أبرهة إلى غزو مكة ومحاولة هدم كعبتها. اليوم لا تجد مكة ما ينافسها كمقصد للحجيج، فتحولت إلى منافسة دبي في الأضواء والرفاهية وتطاول العمران، وتنافس ساعة بيج بين في طرازها المعماري، مع إضافة الذهب.
لنعد إلى القرون الوسطى، اكتسبت مكة، بظهور الإسلام وانتشاره، مكانة مرموقة بين بلدان العالم القديم، وجاءت فريضة الحج لتعزز من مكانتها، وتحقق –بالدين الجديد- حلم السيادة المنشودة الذي حاول الوثنيون من قبل تحقيقه بل وحاربوا النبي من أجله، وظل الحج مؤتمرا سياسيا سنويا يجتمع فيه الخليفة المسلم بولاته ليجددوا مبايعته، لكنه ظل أيضًا طاقة حياة لإقليم محروم بطبيعته الجغرافية، فمكة لم تكن دلتا النيل أو ضفاف نهر الفرات، أو على الأقل لم تكن الطائف بما عرفت به من حدائق ونخيل وأرض خصبة، وظل المسلمون يربطون بين دعاء النبي إبراهيم: \”واجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات\” وبين ما تحقق لمكة من مكانة خاصة قبل الإسلام وبعده، حتى تحولت إلى مدينة مخملية تضج بالأضواء.
الحقيقة أن الحج إلى مكة، بما له من مكانة في التاريخ والتشريع، قد تأثر كثيرا بحركة السوق والمال أيضا، بالإلحاح والإغراء والمبالغة في التزيين، وأعيد ترتيب الأولويات في أذهان الناس ليأخذ الحج مكانا في النفوس صار أحيانا يعارض المعنى الديني بصفته نظام وضع من أجل البشر والحياة والعدل وحسن توزيع الثروات، واليوم حين أمر على أحباب السيدة والأسر التي تفترش أبواب الحسين لا أراهم إلا طرفًا مهزوما في صراع مع الأصولية الدينية، أو تحديدا نسختها التي تقدمها المملكة العربية السعودية، وأشعر أن هجمة السلفية على الصوفيين لم تكن عملا نبيلا، وربما لو ظل لأضرحة الصالحين/الأولياء في مصر (أو غيرها) نفس المكانة التقليدية لتوزعت الثروات التي تنفق باسم الدين توزيعا أكثر عدلا وشملت أناسا أشد احتياجا بكثير، أو على الأقل حتى نصل إلى العدل الذي نرجوه بنظام سياسي عادل، وليس بهوس ديني عشوائي.