يوسف أبو عالية يكتب: هل مصر هبة للإنسانية؟

يبدأ نص الدستور المصري الجديد بديباجة شوفينية يستهلها سيد حجاب بعبارته \”مصر هبة النيل للمصريين وهبة المصريين للإنسانية\”، نتوقف كثيرا عند الشطر الثاني من العبارة، كيف يمكن اعتبار دولة من دول العالم بمثابة هبة من شعبها إلى الإنسانية؟
في عام 1923 كانت مصر قد اكتسبت استقلالا جزئيًا عن الاحتلال العسكري البريطاني، ومثّل اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون –على يد عالم الآثار البريطاني هوارد كارتر- في العام نفسه فرصةً لها لممارسة سيادتها لأول مرة، وبالفعل رفضت الحكومة المصرية التنازل عن خمسين بالمائة من الكنز المكتشف للعلماء البريطانيين –حسب العرف المتبع وقتئذ- واحتفظت بمحتويات المقبرة كاملة، يقول (تيموثي ميتشل) في دراسته عن (التراث والحداثة) أن سيطرة الحكومة على الكنز قدمت برهانًا مفيدًا على الاستقلال الجزئي الذي فاز به البلد للتو، وأن إبراز آثار مصر القديمة كان جزءًا من سياسة النزعة القومية المصرية، إذ كرست المناهج الدراسية تصورًا بأن مصر الحديثة هي مجتمع ترجع أصوله في خط متصل إلى بداية فرعونية، وتمثل فيه الحضارة الفرعونية مصدرًا للهوية المصرية.
الأمر لا يقتصر على المناهج الدراسية الحكومية وحدها، بل يبدو استدعاء الأصول الفرعونية حاضرًا في المجتمع نفسه، لدرجة أنك حين تستمع إلى إذاعة نجوم إف إم، وهي إذاعة للأغاني والموسيقى، ستكتشف أن (شريف مدكور)، المذيع المتخصص في البرامج الخفيفة، يكرّس حلقة يومية من برنامجه (كلام خفيف) للحديث عن أدق تفاصيل التاريخ الفرعوني، وحين يخطئ ذات مرة ويقول \”كتير من الفراعنة\” يصحح تعبيره تلقائيا ويقول \”أو من أجدادنا، مش هاقول الفراعنة..\”، يعد اعتقاد مدكور بانتمائه الفرعوني الغامض مرآة لتصور المجتمع المصري الحديث عن نفسه الذي تحرص النخبة المصرية على تعزيزه، ولذلك حين يثار تساؤل: هل تعد الآثار الفرعونية ملك لنا أم ملك للبشرية وتاريخ حضاراتها ونحن فقط أمناء عليها بحكم إقامتنا في مصر؟ تكون الإجابة حادة وقاطعة.
رغم ذلك، وبعد 90 عامًا من اكتشاف المقبرة، سيستيقظ العالم على خبر تشوه قناع توت عنخ آمون، أهم قطع المقبرة على الإطلاق، بعدما قام مرممو الآثار برفعه بطريقة خاطئة ما تسبب في انفصال ذقنه، وللتستر عن الخطأ قاموا بلصق القناع بصمغ الإيبوكسي الرديء ثم حاولوا إزالة بقايا الصمغ بأداة حادة مما تسبب في خدش القناع وتشوهه، وبدا أن الانتصار الوحيد للسيادة المصرية على الآثار لم يستطع أن يحجب أهم قطعها الأثرية عن عبث وإهمال البيروقراطية المصرية إلى الأبد.


والحديث عن البيروقراطية المصرية لابد هنا أن يتجاوز الحديث عن سلبيات الثقافة المهيمنة، فمن الصعب هنا الحديث مثلا عن تسبب سائق مصري (طارق جرجس) في مقتل عالم الرياضيات الشهير (جون ناش) وزوجته بعد أن حاول تجاوز سيارة أخرى على الطريق السريع، باعتباره سمة من سمات الدولة المصرية، صحيح أن الواقعة تتشابه مع الصورة النمطية لاستهتار السائقين المصريين الذين يحصلون على رخص القيادة في مصر بسهولة وتنتشر بينهم ثقافة الفهلوة وعمل الغُرَز وجري الوحوش على الطرقات، وهي الثقافة التي ربما حملها معه السائق إلى ولاية نيوجيرسي –حتى رغم اجتيازه اختبارات القيادة الصارمة هناك-، لكن لا يحق الحكم على مدى ارتباط هذه الحادثة تحديدا بثقافته كسائق مصري الأصل، والأمر بالتأكيد لا يجب أن يتطرق إلى استيلاء مصرييْن على حقيبة وجداها وألقيا محتوياتها في القمامة وأبطلا –دون دراية- مفعول قنبلة كانت داخلها، لأن استباحة أمتعة الآخرين تظل خيارًا فرديا لا يمكن نسبه إلى الثقافة نفسها.
ولكن تتنوع خطورة عواقب التردي البيروقراطي المصري على سكان العالم الخارجي حسب كل حالة، فأحيانا تكون البارانويا المصرية سببًا في احتجاز طائر مهاجر باعتباره طائر تجسس بعد التشكك في جهاز يحمله، الجهاز سيُكتشف أنه أداة لتتبع مسارات هجرة الطيور ضمن أبحاث علمية، لكن الطائر سريعًا ما سيتم ذبحه وأكله على سفرة مصرية شهية، أما باحثو جمعية الطبيعة المجرية فسينتظرون إلى العام التالي لوضع جهاز آخر على طائر آخر لتتبع الرحلة أملا في ألا يقع مجددا في أيدي أفراد الشرطة المصرية.

وفي أحيان أخرى تكون العواقب دامية وكارثية، فالفشل في تأمين مطار شرم الشيخ سيؤدي إلى هلاك 224 قتيلا في صحراء سيناء، سيثار جدل حول المسؤوليات، أثناء الجدل سنكتشف أن أفراد الشرطة المصرية قد استولوا على متعلقات الضحايا الروسيين أثناء المعاينة الأولى لموقع الارتطام (حسب الاتهام الموجه لهم لاحقًا) مئات الأسر الروسية ستعود إليهم جثامين ذويهم فقط، دون متعلقاتهم، وهم محظوظون للغاية في ذلك مقارنة بأسر الضحايا الفرنسيين في حطام طائرة أخرى والذين ترفض الحكومة المصرية حتى اليوم تسليمهم أشلاء ذويهم رغم مرور خمسة أشهر على الحادث، لأن جهات التحقيق الفرنسية ترفض التوقيع على فرضية وقوع الطائرة نتيجة حادث إرهابي وليس نتيجة إهمال تقني من مصر للطيران، هنا تصبح حتى أشلاء البشر وسيلة للضغط والمساومة.

لكن العالم لا يتأثر بالفشل الإداري وحده، بل من خلال السياسات الخارجية المباشرة أيضا، لكن ما هي السياسات الخارجية المصرية؟ كيف يمكن تعريف اتجاهاتها والمبدأ الذي تقوم عليها؟ يرجى استنباط الإجابة مما يلي:
في جلسة مجلس الأمن (8 أكتوبر 2016) قُدّم مشروع القرار الفرنسي الذي يطالب بوقف الغارات الجوية التي يشنها نظام الأسد وحليفه الروسي، صوتت مصر لصالح القرار، وقُدم مشروع قرار روسي معارض يطالب بوقف الأعمال القتالية في حلب ولكن باستثناء القصف الجوي (أي أن تتوقف المعارضة وحدها عن إطلاق النيران)، صوتت مصر أيضًا لصالح القرار، في النهاية فشل القراران بسبب استخدام حق الفيتو بين الأعضاء الدائمين، لكن بقي التصويت المصري لصالح المشروعين المتعارضين مثيرًا للتأمل، فمصر ليس لديها رؤية واضحة للوضع السوري ولا لدورها في مجلس الأمن سوى أنه فرصة لتعزيز تحالفاتها المتناقضة حتى ولو بتصويتات مجاملة متعارضة، ولعبة السياسة المصرية على تناقضات السياسة العالمية قديمة، فنظام عبدالناصر كان يتحالف مع الاتحاد السوفييتي ويعترف بالصين الشيوعية في نفس الوقت الذي يتلقى فيه معونات الغذاء الأمريكية ويفاوض الولايات المتحدة بشأن تمويل السد العالي.
وتاريخ الدولة المصرية المعاصرة حافل أيضا بمحاباة شخصيات سياسية مكروهة في بلادها وأحيانا في المجتمع الدولي، فحين اندلعت الثورة الإيرانية، كان (محمد رضا بهلوي) يجوب العواصم الأوروبية بطائرته آملا اللجوء، رفض الجميع استقبال الطاغية، وكان النظام المصري هو ملاذه الأول، استقبله السادات استقبالا رسميا افترش فيه السجاد الأحمر، كانت مصر يومئذ هي الدولة الوحيدة التي يمكن أن تعادي شعبًا بأكمله لصالح الدكتاتور. يرى أحمد بهاء الدين، في محاوراته، أن السادات كان معجبًا شخصيا بالشاه، وكان يراهن بقدرة الولايات المتحدة على إعادته إلى الحكم، بالطبع خسر السادات رهانه وخسرت مصر علاقاتها بإيران.
ولا يزال نفس التقليد مستمرًا، ففي الوقت الذي يمتنع فيه البشير عن حضور القمم الأفريقية، ناهيك عن العواصم الأوروبية، خشية اعتقاله، ويفتقد فيه أي شرعية في المجتمع الدولي، وتقتصر البلدان المفتوحة له على إيران والصين وقطر، كانت مصر منذ أسابيع تستقبله وتمنحه وسام نجمة سيناء، ولا يلتفت النظام المصري أبدًا إلى مذكرة اعتقاله الصادرة من المحكمة الجنائية الدولية، فمصر متخصصة في الاحتفاء بالطغاة ومجرمي الحروب، ولهذا كانت منذ أيام تستقبل أيضا (علي مملوك) رئيس مكتب الأمن الوطني السوري وأحد أهم رجال نظام الأسد، بينما يحتفي الإعلام المصري باليمين الأوروبي المتطرف ويجري الحوارات مع مرشحة عنصرية مثل (ماريان لوبان) ويلتقط منها آيات الثناء على النظام السياسي الحالي في مصر، نظام كهذا لا يصح أن يُثنى عليه إلا من أمثال هؤلاء.


وكان للنظام الناصري من قبل تجارب مشابهة، فالطبيب النازي (أربيرت هايم)، الملقب بطبيب الموت، كان متهما بحقن سجناء معسكر ماوتهاوزن بمواد سامة في القلب وإجراء تجاربه عليهم دون تخدير، واختفى في عام 1962 بعدما علم بنية ملاحقته جنائيا، ورُصدت مكافآت لمن يعثر عليه ويقدمه للعدالة، بعد ثلاثة عقود سيقرأ العالم أن المتهم لجأ إلى مصر وعاش فيها طوال هذه المدة وحتى وفاته عام 1992. وعلاقة النظام الناصري بالنازيين السابقين لم تقتصر على التستر عليهم، بل أحيانًا باستغلال كراهيتهم لليهود للاستفادة من خدماتهم، فعندما أرادت مصر إقامة مشروع الصواريخ الباليستية جنّدت علماء نازيين، كان من بينهم (يوجين سانجر) و(فولفجانج بيلتس) و(هانز كلاينفختر) و(بول جيركه) وكذلك (رولف إنجل). وراء كل اسم من هؤلاء قصة عالم سخّر علمه لخدمة الرايخ الثالث، كانت النتيجة هي صاروخي (الظافر والقاهر) بكل ما أحاط بهما من بروباجندا إعلامية زائفة.
احتفاء مصر بالطغاة الهاربين وتوفير الملجأ لهم يقع على النقيض من سياسات تعاملها مع اللاجئين من المواطنين، فاللاجئ مرحب به فقط إن كان قاتلا، أما الضحايا فيتعرضون للإذلال (ليس من كاميرات ريهام السعيد وحدها، ولكن من المسؤولين الحكوميين أيضا)، بل وقد يتعرض بعضهم لمذبحة جماعية كما حدث مع اللاجئين السودانيين في حديقة ميدان مصطفى محمود عام 2005، والتي تركت خلفها عشرات القتلى من اللاجئين.
إن \”مصر هبة المصريين للإنسانية\” عبارة مضللة، فالواقع ينطق بعكس ذلك، ونحن دولة لا تصدّر للعالم إلا الإهمال القاتل والأكاذيب والاحتفاء بالقتلة والطغاة والمتطرفين، وإذا كنا نعتبر مواقفنا المخجلة هذه هبة للإنسانية، فالأفضل أن نتوقف عن إرسالها، لأن الإنسانية تعبت حقا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top