\”الرجل عادة تكون عنده غدة –نسيت اسمها- في الرأس تستطيع أن تقوم بوظيفتين: التذكر والكلام، أما المرأة فالغدة تقوم بوظيفة واحدة: إما تتذكر وإما تتكلم\”.
حديث الشيخ العريفي عن الغدة (المجهولة) التي قرأ عنها في مدونة (مجهولة أيضا)، لا يشذ عن اتجاه سائد بين الإسلاميين لتبرير التفسير الذكوري للنصوص الدينية بمعطيات تصطبغ بالعلم، وهو ليس اتجاه يحتكره الرجعيون الإسلاميون وحدهم، فالاشتراكيون من قبل كانوا قد احتجوا بطبيعة الحياة الجماعية داخل ممالك النمل والنحل لإثبات أن الطبيعة تنحى منهجا اشتراكيا تسيطر فيه الدولة على الإنتاج. وفي القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين استخدم (هربرت سبينسر) و(مادسون جرانت) العلوم البيولوجية –وخاصة ما يتعلق منها بالانتخاب الطبيعي- في تبرير كل شيء، بدءًا من الطبقية الاجتماعية وحتى سيطرة الرجل الأوروبي الأبيض على العالم (الكولونيالية)
لم تصمد مثل تلك النظريات العنصرية طويلا، إذ دحض عالم الإنسانيات (فرانز بُواس) نظرية التفوق العنصري الأوروبي من خلال قياس حجم أدمغة أطفال المهاجرين الأوروبيين ومتابعة مدى اقترابها من أدمغة السكان الأصليين الأمريكيين (الهنود الحمر) عند تغذيتهم بنفس الأطعمة.
وظهرت مدرسة مؤثرة من علماء الاجتماع والإنسانيات الذين رأوا أن اختلاف الجماعات البشرية يتعلق بالثقافة/التنشئة الاجتماعية أكثر مما يتعلق بالطبيعة/العنصر، ورأى علماء الإنسانيات أن الرجل المعاصر والشمبانزي قد يشاركان ميلا إلى العنف ولكن السبب دائما يتعلق بالحضارة وليس بالطبيعة البشرية، والبيولوجيون المعاصرون قد أجمعوا على أن الأعراق/الإثنيات لا تمثل تصنيفات بيولوجية هامة لأنها لم تتشكل إلا في المئة ألف عام الأخيرة، وهي مدة تمثل طرفة عين مقارنة بالزمن التطوري الذي يمتد لمئات ملايين السنين.
لكن دور الطبيعة البشرية لا يزال محل جدل لم يُحسم حين يتعلق الأمر بالاختلافات (الچندرية) بين الجنسين، بفضل علم السلوك مثلا الذي يعقد المقارنات بين الجماعات البشرية وبين جماعات الحيوانات، وقدم عالما النفس (إليانور ماكوبي) و(كارول جاكلِن) تصورا هاما وموسوعيا للاختلافات الجنسية ينفي إمكانية إثبات أية صور نمطية شائعة عن الذكر أو الأنثى، لكنه يفتح الباب أيضا لفكرة أن للاختلافات جذور في الطبيعة البيولوجية وليست فقط وليدة العوامل الاجتماعية الناتجة عن التنشئة والثقافة السائدة، وثمة إجماع على أن الأولاد أكثر عنفا -لفظيا وجسديا- من الإناث، وبالتدقيق في إحصائيات الجريمة التي رُصدت نسبها في عدد كبير ومتنوع من المجتمعات الإنسانية، كانت الإناث دائما أقل عنفا بكثير جدا عن الذكور.
كقارئ عربي، أجد اختلافا كبيرا في تناولنا للمسألة في دوائرنا الجدلية، عادة حين نحاول إثبات فوارق بيولوجية بين الجنسين، فوارق تتعدى الفوارق الجسدية إلى الفوارق الذهنية/العاطفية، يكون غرضنا إثبات \”عدم أهلية\” المرأة للأدوار الاجتماعية التي اعتاد الذكور ممارستها لقرون (بدءًا من قيادة السيارات)، وليس محاولة استكشاف طبيعة قيام الإناث بهذه الأدوار، وبدلا من أن يكون التساؤل استفهاميا: \”كيف سيكون شكل السياسة والعلاقات الدولية إذا حكمتها الإناث؟\”، يصبح استنكاريا: \”كيف للنساء أن يحكمن العالم؟\”، وفي هذه الحالة تصبح المرأة القائدة حالة استثنائية تحدث حين تتخلى المرأة عن طبيعتها الأنثوية وحين تحكم رعيتها كذكر، ويصبح الوصف الإعلامي الوحيد للمرأة السياسية الناجحة هو \”المرأة الحديدية\” وفقط.
ولقد تجاوز الجدلُ العالمي هذا السؤال الشائع: \”هل يمكن للمرأة منافسة الرجل في المناصب القيادية؟\”، لأن التنظير النسوي -والذي ظهرت أدبياته في الثمانينيات- لا يعتبر (مارجريت ثاتشر) أو (جولدا مائير) نموذجين للحكم النسوي أو السياسة الخارجية النسوية، لأن (ثاتشر) و(مائير) في النهاية قد حققا نجاحهما من خلال منافسة الرجال في لعب نفس الأدوار التقليدية التي رسخها الحكم الذكوري ولم يُعترف بكفاءتهما إلا بعد تحليهما بنفس الصفات الذكورية للقائد السياسي: الصرامة والخشونة والتنافسية والعدوانية والاستعداد الكامل لاستخدام العنف عند الضرورة. وربما يفضل النسويات النظر إلى نماذج نسوية نوعيا مثل (ماري روبنسون) أو (جرو هارلِم) أو –مؤخرا- (مارغو فالستروم) وزيرة الخارجية السويدية.
لنأخذ (مارغو فالستروم) نموذجا، كانت أولى خطواتها –كوزيرة للخارجية- أن تعترف بدولة فلسطين، وأثارت خطوتها جنون الحكومة الإسرائيلية ودارت حرب تصريحات طويلة لم تخل من التعريض الذكوري بأنوثتها كنقيصة في عالم السياسة، حرفيا قال ليبرمان: \”العلاقات في الشرق الأوسط أكثر تعقيدا من تركيب قطع أثاث إيكيا\”، بالطبع لم تكن أزمة ليبرمان مع تولي امرأة لوزارة الخارجية السويدية بشكل مطلق، وإنما في مجرد \”بقائها امرأة\” بعد توليها المنصب، يمكننا هنا أن نرى السياسة الدولية الذكورية كما يراها اليمين الإسرائيلي المتطرف مقابل السياسة \”النسوية\” التي قدمتها (فالستروم) بدعمها للقضية الفلسطينية أو بانتقادها لأوضاع حقوق الإنسان داخل المملكة العربية السعودية والتي شبهتها بالقرون الوسطى.
* * * * *
سألت مدرس العلوم الشرعية مرة: \”لماذا يشيع عن الطلاب الأزهريين سمعة الوقاحة والبذاءة والقابلية للانحراف مقارنة بطلاب التعليم الحكومي؟ \”، فأجاب: \”لأن غياب الإناث عن فصولهم الدراسية مبكرًا يحررهم من أي التزام بالذوق\”.
يبدو هذا افتراضا وجيها بالنسبة لي، والحقيقة أن طبيعة الوظائف والمهمات تتغير كثيرًا حين تشارك الأنثى، دعنا نوضح ذلك:
في عام 1953 طرحت منظمة (غالوب) سؤالا على المواطنين الأمريكيين: \”إذا حصلتم على وظيفة جديدة، وكان لديكم الحق في اختيار جنس المدير، فهل تفضلون رجلًا أم امرأة؟\”، وقتئذ كان ثلثا المواطنين يفضلون العمل تحت إدارة رجل، بينما كان يفضل 5% فقط منهم العمل تحت إدارة امرأة، وقال 25% إنه لا فارق أمامهم بين الجنسين.
في عام 2014 طرحت المنظمة السؤال نفسه، فكانت النتائج مثيرة للدهشة، ثلث واحد فقط من الأمريكيين الآن يفضلون العمل تحت إدارة رجل، بينما 20% منهم يفضلون مديرة أنثى، و46% يرون الآن أنه لا فارق أمامهم بين الجنسين.
تشير الدراسات التجريبية أن الموظفين العاملين تحت إدارة امرأة –على غير المتوقع- يكونون أكثر التزاما ومشاركة من العاملين تحت إدارة الرجل، وأن النساء يشاركن الآخرين مشاعرهم بعمق أكبر من الرجال (اعتمدت بعض الدراسات على عدوى التثاؤب في الاجتماعات البشرية)، الإحصائيات تكشف أيضا أنه حتى قيادة النساء للسيارات لا يمكن اختزالها فقط في تلك الصورة النمطية الشائعة عنهن كسائقات فاشلات، فقيادة النساء رغم بطئها وترددها إلا أنها تظل أكثر التزاما بالقوانين المرورية وأقل ميلا إلى المخاطرة والاستهتار بكثير مقارنة بالذكور.
يمكن القياس على مسألة قيادة السيارات في أمور أكثر جدية، فبتعبير العالم (فرانسيس فوكوياما): \”بلغة الإحصائيات يبدو أن الرجال هم من يستمتعون في الأساس بتجربة العدوان وبتحويل الحروب إلى طقس شعائري اعتيادي، وإن عالَما أموميا حقا قد يكون أقل عرضة للصراع وأكثر تصالحًا وتعاونا مما نعيش فيه الآن\”، أو بتعبير أستاذ علم النفس بجامعة هارفارد (ستيفن بينكر): \”ربما يتباهى الرجال بتربعهم قائمة تاريخية طويلة حافلة بالغزاة المتهورين والطغاة المتعطشين للدماء وسفاحي الإبادات الجماعية، بينما ظلت النساء –على مدار التاريخ- قوة مهدئة\”.
قد تعيق ندرة تجارب عملنا تحت قيادة النساء في عالمنا العربي من فهمنا لوجاهة هذا الاقتناع المتنامي في الغرب، فقليلون من أجروا أبحاثهم تحت إشراف ريم سعد أو مارسوا عملهم النقابي تحت قيادة منى مينا أو عملهم الصحفي مع لينا عطا الله، أما النماذج النسائية العامة؛ مثل تهاني الجبالي أو فايزة أبو النجا، فهي لا تعبر عن تجربة الحكم النسوي بقدر ما تعبر عن انتقاء المجتمع الذكوري لإناث مستعدات للعمل بنفس خشونة الذكور، وربما لهذا لا نتذكر في سردنا التاريخي لمذبحة القلعة إلا فاعلها محمد علي باشا باعتباره نموذجا للحكم كما يجب أن يكون؛ ذكوريا ومستعدا للصراع على السلطة ولو بسفك الدماء، بينما يتوارى في سردياتنا موقف زوجته (أمينة هانم) المعارض له لأنه لا مكان للقوى \”المهدئة\”، حسب تعبير (بينكر)، في دروس الحُكم التي نتعلمها ونقتدي بها.
لا أظن أن تجارب حكم النساء ستظل محرمة طويلا في مجتمعاتنا، فمنذ الثورة الصناعية لم يعد خروج النساء إلى المجال العام وممارسة الحُكم بندية إلا مسألة وقت وحسب، صحيح أنه لا تزال تحكمنا الأعراف المتوارثة عن الحكم وكذلك التفسيرات الذكورية القرو-وسطية للنصوص الدينية، لكننا مع الوقت نستطيع استيعاب ما أرسته الثورة الصناعية من تداول حتمي للأدوار الاجتماعية بين الجنسين، ففي العصور الوسطى كانت الأهلية (والقوامة) للرجال وحدهم لأن الحياة الاجتماعية كانت تحكمها العضلات وحدها؛ كسب الرزق كان بالعضلات (رعي أو زراعة أو ترحال تجاري) وتوفير الأمن كان أيضا بالعضلات، وتبعية الأنثى لصاحب العضلات لا مفر منها في سياق كهذا، وظل النظام الاجتماعي مستقرًا على أساس هذه المعطيات حتى فقدت العضلات قيمتها تدريجيا، ظهرت الماكينات وتحولت وسائل كسب الرزق إلى وظائف مكتبية نظيفة يقوم بها الجنسان بندية، وتطورت المجتمعات وتشكلت الدول وحُكم القانون، ولم تعد المرأة في حاجة إلى رجل يحميها لأن تنقلها صار مؤمنا بالقانون أو بأدوات بسيطة للدفاع عن النفس (الصاعق الكهربي نموذجا)، في النهاية، يمكنني الإفصاح عن تطلعي إلى عالم نظيف ومرتب ومسالم وللنساء كلمة مؤثرة حقا في رتم علاقاته، طالما أن السيدة فايزة أبو النجا ليست بينهن.