يسري نصر الله يكتب: وعاشوا في التبات والنبات

 

من يومين وموضوع إقرار المحكمة الدستورية العليا في أمريكا لحق المثليين في الزواج شاغل ناس كتير، ومنهم أنا، بالرغم من إن بلاد تانية زي كندا وزي معظم البلاد الأوروبية مقرة ده ومن زمان، مع ذلك ما حسيتش أيامها إن ده موضوع يستاهل  التوقف عنده كتير، لسبب بسيط وهو إن المجتمعات دي –على عكس أمريكا- أصلا عندها  تاريخ طويل من تقبل الحريات الشخصية، وبرضه ليها \”سمعة\”  الصدام مع ما يسمى بالأخلاق العامة.

أمريكا المتفوقة في العلوم والتكنولوجيا -للي ما يعرفش- مجتمع مليان جهل، مليان عنصرية، و–أيوة- مجتمع محافظ جدا.

مش باتكلم عن نيويورك وسان فرانسيسكو، باتكلم عن أمريكا \”الجوانية\”، اللي مثلا اضطهاد السود  فيها لسه متصدر الأخبار بالرغم من الكفاح الطويل ضد العنصرية وبالرغم من رئيسها الأسود.

بعيدا شوية عن الكلام عن التفوق العلمي لأمريكا، وعن الجهل والعنصرية والتخلف، نتكلم شوية عن أمريكا اللي بتنتج أكبر كمية من الأفلام والمسلسلات، اللي معظمها بيدور حول موضوع العائلة وموجه لجمهور عائلي.

موضوع العائلة تحديدا من أهم الموضوعات اللي بتشغل المخيلة الجمعية لكل بلاد العالم، وأمريكا مش استثتاء للقاعدة دي.. بالعكس.

الزواج في حد ذاته، أداه أو سميها عقد مدني لتنظيم الورث والثروة والنسب بين شخصين قرروا يعيشوا سوا (ممكن يبقوا مجموعة من الأشخاص على فكرة)، وهو موضوع عارفاه المجتمعات من قديم الأزل ومن قبل الأديان.. تطوره أو تغيره بحيث يتحول لموضوع ديني مش مجالنا هنا.

بس المؤكد هو إن فيه ارتباط وثيق بين الزواج كتعاقد وبين نية تكوين عائلة، واللي مش واخد باله وفاكر إن حكاية زواج المثليين هي حكاية حقوق إنسان أو انحلال أخلاقي وجنسي، نحب نفكره ونؤكد له إن العائلة هي موضوع قرار المحكمة الدستورية في أمريكا وموضوع كل القوانين اللي أقرت الحق ده في أنحاء العالم الغربي.

أيوه.. الموضوع هو الحفاظ على العائلة بصفتها أهم مؤسسة بتعتمد عليها المجتمعات البشرية.. طبعا كان فيه صراع وكفاح من قبل المثليين للمطالبة بحقوقهم وبمساواتهم مع الغير، بس إيه إللي يخلي مجتمع محافظ (ممكن حتى يتقال عنه رجعي) ينتهي بيه الأمر إنه يقبل ده؟ وليه يقبل بصيغة الزواج، لما هو كان أساسا ومن زمان وبعد صراع طويل، كان قابل بإن المثلية الجنسية لا هي جريمة ولا هي شذوذ ولا مرض؟

ليه زواج؟ خصوصا إن عندهم تعاقدات تانية مقرة قانونا تسمح لطرف بتوريث الطرف الآخر، وبتخفيضات ضرايب زيهم زي أي ناس متجوزين (الشراكة المدنية في إنجلترا والـ pacs  في فرنسا)، وحتى موضوع تبني المثليين للأطفال محلول نسبيا وبيخضع –وحايكمل يخضع- لمعايير صارمة جدا بتنطبق عليهم زي ما بتنطبق على أي حد ومرتبطة أساسا بقوانيين تخص حقوق الطفل وقدرة الأهل – أيا كان توجههم الجنسي – على تربية ولادهم.

فيه غالبا جانب \”رمزي\” في إقرار الحق ده.. جانب مرتبط بطريقة كل المجتمعات في تحويل أي علاقة خاصة لعلاقة ليها شكل قانوني يسمح للمجتمع بالدخول والتدخل فيها وتنظيمها.. (أعداء الزواج دايما بيتكلموا عن إن الزواج هو إعطاء المجتمع وكافة سلطاته حق الدخول في أوضة نومك وفي سريرك).

مش حاتكلم تاني عن موضوع إزاي العائلة وأحكام الزواج اتغيرت عبر التاريخ (راجع أحكام النكاح في الجاهلية وبعدين في الإسلام، وحاتفهم إن العائلة مش حكاية ثابتة وإنما مؤسسة مرت بتغيرات كتيرة قوي)، إنما السؤال اللي بيفرض نفسه هو بالفعل: هل العائلة كمؤسسة بطلت تتغير ولا كل الشواهد بتوع الـ 100 سنة اللي فاتوا بيدلوا على إنها مرت بتغيرات وأزمات ضخمة جدا وإن بقاءها – كمؤسسة- دايما ارتبط بقدرتها على استيعاب التغيرات دي وإدخالها في نسيجها.

مثلا: موضوع تحرر المرأة.. شيء كان غير مقبول بالمرة لغاية عشرينيات القرن الماضي.. إيه اللي حصل؟ حرب عالمية  قتلت رجالة كتير.. ستات اشتغلوا وشالوا اقتصاد البلاد في غياب الرجالة.. النتيجة حقوق للستات، وحرب تانية عالمية ورجالة كتير يموتوا ومجتمع محتاج أطفال، فيحصل اعتراف بالأطفال خارج الزواج بالرغم من إن ده كان قبلها بكام سنة فضيحة الفضايح، وبعد شوية يحصل قبول للأم العازبة، ومش بس كده، إنما إدالها  في بعض البلدان (النرويج مثلا) مميزات أكتر من الأم المتزوجة.

عندنا في مصر، لا يمكن فهم قانون الخلع مثلا، بعيدا عن إن عددا ضخما من العائلات بتعولها المرأة، ولا يمكن فهم العشوائيات من غير ما نفهم إن فيه تناقض ضخم ما بين هيمنة قيم سلطة الأب في الوقت اللي أبهات كتير عاطلين عن العمل وأولادهم هما اللي بيشتغلوا.

ومفهوم العائلة الممتدة انهار تماما في المدن – وحتى في الريف- مع تفتت الملكية، بس لسه قيم العائلة الممتدة هي السائدة.. بس خلينا في أمريكا وبلاش ندخل في موضوع مصر.

المجتمعات والمؤسسات عمرها ما بتتغير بطريقة \”إنفعالية\”، حتى لما بتقوم ثورات بتلاقي حاجات تروح \”راجعة زي الأول\” وبعدين يا تفضل كده يا تتغير على نار هادية.. يعني نضال المرأة، ونضال السود، ونضال المثليين أي نعم مهم ودفع الأمور للأمام، بس القوانين ما تغيرتش، إلا لما أصبح عدم تغييرها بيسبب للمجتمع خسارة أكبر بكتير من بقاء الأمور على ما هي عليه، ودور حاجة زي المحكمة الدستورية في أمريكا والسلطات التشريعية في العالم، هو إنها تدرس الحاجات وتسبق المجتمع (المحافظ بطبيعته) بخطوة عشان تمنعه من الوقوع في كارثة.

كارثة؟ طبعا.. إيه مكسب المجتمع من التعامل مع السود كمواطنين درجة تانية؟ لما يبقى صعب الاحتفاظ  بيهم كعبيد؟ أو في جيتوهات زي بتاعة جنوب أفريقيا؟ يبقى لازم المجتمع يقبل – ولو على مضض – بحقوقهم، وإلا لازم يتعامل معاهم كمجرمين خارجين على القانون، وده تكلفته المعنوية والإقتصادية عالية جدا.

معنوية؟ طبعا.. إيه مكسب المجتمع من التعامل مع قطاع مهم على إنه براه؟  قطاع لا هو مجرم ولا هو  إرهابي، وكل طموحه إنه يبقى شبه باقي المجتمع؟  إيه مكسبه من إنه يتعامل مع عدد ضخم من الأمهات العازبات على إنهن عاهرات، وإن أولادهن أولاد حرام؟ إيه مكسب مجتمع كاثوليكي محافظ من تحريم الطلاق؟ الكنيسة بترفض الطلاق، والطلاق أصبح شائعا جدا في كل حتة في العالم.. النتيجة إن الناس ابتدت تبعد عن الكنيسة، وشكل العائلة اتغير، لإن لو جواز فاشل استمر، النتيجة بتبقى أولاد بيتربوا وسط جو مليان كراهية ومليان عنف.

المؤكد هو إن من مصلحة أي مجتمع  إنه يتقبل واقعه، وإنه يحاول يدمج الواقع ده في منظومته القانونية والأخلاقية.. عملية  معقدة جدا، وبتاخد وقت طويل جدا، وأي سلطة عاقلة بيبقى همها إنها تعجل شوية بالعملية دي عشان تقلل الخسائر.

الواقع هو إن شكل العائلة اتغير، ولسه بيتغير.

هل التمسك بقيم عائلة ما بقالهاش وجود هو الحل؟ ولا الحل بيكمن في إن ناس تدرس العائلة، أصبح شكلها  إيه وأفق تطورها وتغيرها إيه، وتحاول تلاقي طريقة تطور القيم بحيث تتوافق مع الواقع؟

أي مجتمع عاقل بيحاول يدخل كل أفراده في تركيبة يقدر يديرها ويقدر يتحكم في جزء كبير من تصرفاتها ويتنبأ بيها وبأنماط سلوكها الاقتصادي والاجتماعي.

أهم مؤسسة بتسمح بده هي العائلة، ومن هنا أوفر بكتير للمجتمع إنه يستوعب المثليين جوا المنظومة دي، بدل ما يسيبهم زي إلكترونات حرة يتصرفوا خارج المؤسسات.

مؤسسة الزواج بما  تعنيه من التزام، وبما تعنيه من نفقة طلاق باهظة  –على سبيل المثال – أوفر بكتير من حالة السيولة الجنسية اللي تسببت في انتشار الإيدز، وكلفت صناديق التأمينات الاجتماعية والتأمينات الخاصة مبالغ ضخمة لعلاجها.. الأمثلة كتير.

يقال إن المثليين في أي مكان في العالم بيشكلوا حوالي 10 % من المجتمع.. هل فيه مجتمع عاقل في الدنيا مستعد إنه يستغنى عن 10 % من أفراده كقوة اقتصادية ويد عاملة، ويحولهم لناس حاسة بالمرارة والاغتراب عنه؟ ولما يكون المجتمع ده مستمد شرعيته من مبادئ تخص المساواة والعدالة، بيبقى صعب جدا إنه يتعايش مع تناقض، ما بين ما هو مشروع ضمن منظومة قيمية هو بيدافع عنها، وما بين ما هو قانوني.

التناقض ده مبني عليه كل النظم الديكتاتورية، اللي بتحكم بما يمن به حاكم على الرعية، ومش بالحقوق المشروعة اللي بيتصاغ لها قوانين.. الديكتاتور وأي حد بيعتبر نفسه سلطة مطلقة، بيفتكر إن الواقع وهو حاجة واحدة.

بس الواقع دمه تقيل قوي، وبيفضل مطلع لنا لسانه طول ما إحنا مش عايزين نشوفه على ما هو عليه، والواقع بيقول لنا كل يوم إن الدنيا بتتغير.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top