هل تذكر \”نرجس\”؟! نرجس تلك السيدة التي شخصتها القديرة الباقية فاتن حمامة في رائعة داوود عبد السيد \”أرض الأحلام\”، نرجس تلك السيدة التي فرضت على نفسها قمعاً ذاتياً بدأب سلحفاة، لا تعرف التراجع ولا الاستسلام، تلك التي ظلت أبداً تعطي وتعطي، وهي لا تدرى أنها حين تضحي برغباتها الذاتية أبداً فتوهنها ستفقد ذاتها حتماً، إلى أن تقابل بعاصفة هوجاء ترجرجها وتنتزعها من جذورها.. متى سمحت لمسامها بالتنفس.. متى لامستها تلك الرياح، التنفس أولاً ومن ثم الانتشاء.
من بنات نرجس، ومن نفس الفصيلة تأتينا سهام في مسلسل \”سقوط حر\”.
سهام التي تقدمها الفنانة صفاء الطوخي، فترسم بها خطا بالغ الرهافة والدقة والرقة، شخصيات من هذا النوع هي شخصيات تقدم تحدٍ لقدرات أي ممثل، فهي شخصيات مجدولة من أكثر من ضفيرة، أولها هي الحرص والاستقامة والانضباط والدقة والتفاني، إن تكون تلك هي صفات أي شخصية، فلا يمكن لك إلا أن تصفها بالمثالية -هو في كده!
لكن أنت تعلم ما هو الوجه الآخر لكل صفة من تلك الصفات، وتعرف منطقة التماس الغائمة الزلقة ما بين هذا وذاك، ونعني بها متاريس البخل والاستبداد والتشنج والتطلب والإنتقادية؛ فهذا من ذاك أبداً أبداً غير بعيد.
لكم صادف المرء شخصيات من قبيل هؤلاء المثاليون البغيضون! وتلك هي المشكلة، قل لي ما هي الجنة أساساً إن لم تكن النزق والاستهتار والكسل والتلذذ والتهتك والمجون الحر؟!
وبتبسيط مخل، إن الحياة لا يمكن لها الاستمرار بالنظام فحسب، ولكن حاشا لله أن يستمرئ المرء الفوضى منهاج حياة مهما لعب له الشيطان حواجبه.
السيناريوهات الأسهل في تقديم شخصيات من هذا النوع هو التركيز على الجانب الانضباطي الاستبدادي، فتكون معصومة كريهة وخلصنا بقى، أو قل غير محبوبة على أرق تعبير.
لكن الأصعب هو أن تكون تحت قشور أو طبقات الانضباط، يكمن مقموع.. مقموع مورس عليه صنوف من القمع الذاتي والمجتمعي، أحدهما أو كلاهما، هذا المقموع في أعمق وأحلك مجاهل الذات، حي يتنفس.. مقموع ينتظر الفرصة التي قد تأتي وقد لا تأتي، فيخرج.
ومن السيناريوهات السهلة أن يتسارع هذا المقموع إلى الخروج، فيشكك في قوام الشخصية التكويني من الأساس، وكل هذا ببساطة ما لم تفعله صفاء الطوخي.
تلجأ صفاء الطوخي في (سقوط حر) إلى تكنيك أشبه بقهوة على نار هادئة، لكن الأمر ليس بمثل هذه البساطة، ليصبر عليّ القارئ قليلاً ليفهمني أكثر، لنستمر في تشبيه النار الهادئة، دعك من القهوة الآن، ثمة طبخة ما على نار هادئة، لكن غير الاعتيادي فيما فعلته الماهرة، أنها لا تضيف مكونات للطبخة، لا بل تحذف منها، إنها وبحرفية تخرج أشياء تدريجية من هذا القدر لتعود لما هو أبسط وأبسط، إذ إنها تحذف.. تحذف يا مولانا ركيمة طبقات جيولوجية، تعقيدات حياتيه، شنجت؛ حركاتها، وأسلوب حديثها، ومن قبلهما ملامحها.. صفاء تفك سهام.. تفك بالمعنى الحقيقي والمجازي للكلمة، تفك بالشحنات الدلالية للفظة \”تفك\” في الفصحى وفي العامية على السواء.
هل تعرف الحكماء البسطاء المتصالحين الذين تحدق في ملامحهم، فترى نضارة طفولية؟!
تخطو سهام خطواتها في هذا السبيل، تنتزع كل هذا الطين من الوجه، تقشر عن وجهها طلاء تلو طلاء، فتتجدد.. صمتها أكثر من كلامها، تقول بلا كلام أكثر مما تقوله بالكلمة.
ستضحك سهام وأنا انتظر ضحكتها ولو بعد حين.