يذكر العلامة جمال حمدان في كتاب \”شخصية مصر\” أن هناك حقيقة تاريخية معروفة منذ بدء الخليقة، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهي أن مصر دولة مركزية.
ومرد ذلك لوجود النيل، مع موقع مصر في منطقة مدارية حارة تندر بها الأمطار، وده دفع بالإنسان إلى التمركز حول النيل لأنه مصدر المياه الوحيد.
الدولة المركزية دي ارتبطت تحديدا بالمناطق المأهولة بالسكان على ضفاف النيل (الوادي والدلتا) والدولة المركزية بطبيعتها دولة مستبدة، بترسخ الاستبداد وبتستفيد منه، وهي في أغلب الأحوال بتكون في المناطق الزراعية، وده لأن الإنسان فيها بيكون مرتبط بالأرض ومستقر بجوارها لرعايتها، يعني من السهل التحكم في مصدر رزقه، وبالتالي السيطرة عليه واستعباده.
الحضارات القديمة المرتبطة بالزراعة تكونت فيها دول مركزية مستبدة تقدس الحاكم وتعبده (مصر- الصين- الهند- سوريا- فارس) وحتى العراق الذي لم تنشأ فيه دولة مركزية واتخذت حضاراته شكل المدينة/الدولة، كانت أيضا مستبده تقدس الحاكم وتعتبره نائبا للإله.
على الجانب المعاكس هنلاقي إن الحضارات التي ارتبطت بالبحر زي فينيقيا واليونان، لم تنشأ فيها دول مركزية، وكانت فيها نزعة للاستقلال وعدم الخضوع للسيطرة، وده لإن الإنسان فيها تعلم ركوب البحر، وكان دائم التنقل.
مثال آخر وهو شبه الجزيرة العربية، وتحديدا المناطق الوسطى والشرقية منها، حيث لم تخضع لدول مركزية، حتى بعد اعتناقهم للإسلام لم يخضعوا للدول المتعاقبة اللي حكمت المسلمين زي الأمويين والعباسيين والعثمانيين إلا فترات يسيرة، وكانت الدول دي بتحاول تسترضيهم وتستميلهم بمختلف الوسائل لتضمن ولاءهم وتأمن شرهم.
وده سببه إن أغلب سكان هذه المناطق من البدو اللي تعودوا على حياة الترحال والتنقل، وبالتالي بينشأ فيها البدوي مستقلا ومعتمدا على نفسه، ومش مرتبط بالأرض، وبمجرد تعرضه لظلم وعدم قدرته على الحصول على حقه، بنلاقيه بيحط الخيمة على ضهر الجمل وينتقل لأي مكان.
يقول الكواكبي في طبائع الاستبداد: \”الناظر في أحوال الأمم يرى أن الأسراء يعيشون متلاصقين متراكمين، يتحفظ بعضهم ببعض من سطوة الاستبداد كالغنم تلتف بعضها على بعض إذا ذعرها الذئب، أما العشائر والأمم الحرة، التي يملك أفرادها الاستقلال الناجز، فيعيشون متفرقين\”.
نفس الأمر بالنسبة لمصر، فالمناطق الصحراوية في الشرق والغرب لم تخضع لسلطة الدولة المركزية، وكثيرا ما شكل البدو مصدر خطر وسببوا القلق لها.
سكان السواحل هنلاقيهم أكثر ميلا للحرية وتطلعا للتغيير، والكلام ده ليه عدة دلائل.. شرارة الثورة انطلقت من السويس.. أبرز الشخصيات المعارضة اللي وصلت للبرلمان رغم أنف النظام كانت في المناطق الساحلية (إسكندرية- كفر الشيخ- بورسعيد).. حمدين صباحي حصد مليون صوت في إسكندرية وحدها.. وده لأن سكان هذه المناطق اتعودوا على الأخطار من خلال ارتباطهم بالبحر وتعاملهم مع الرياح والعواصف والأمواج.
على عكس الصعيد المرتبط بالنيل والزراعة، كان دايماً مؤيد للنظام؛ لأنه بطبيعته بيميل للاستقرار وبينفر من أي شيء جديد وبيعتبر أي محاولة للتغيير تهديد لوجوده.