أكاد أجزم بأن أحدا ممن أجاز طباعة هذا الكتاب ونشره في مصر، لم يقرأ أو يطلع بشكل تفصيلي على محتواه. ولا يوحي عنوان الكتاب بما يدعو إلى القلق عند الجهة الحكومية التي عملت على ترجمته ونشره، وهي \”المركز القومي للترجمة\”، التابع لوزارة الثقافة، أو الجهة التي أعادت نشره، بعد ذلك بسنوات، وهي سلسلة \”مكتبة الأسرة\” التابعة للوزارة نفسها.
الكتاب هو \”حروب المياه: قصة الصراع القادم في الشرق الأوسط\”، ومؤلفاه هما الصحفي البريطاني جون بولوك والصحفي البريطاني، من أصل مصري، عادل درويش. وعلى أهمية القضية التي يتناولها بالبحث، وخطورتها، فإن الكتاب يتضمن قصتين أوردهما المؤلفان تستحقان التوقف والتأمل، عن خطتين يزعم المؤلفان أن المخابرات العامة المصرية وضعتهما للانقلاب على الرئيس الأسبق أنور السادات.
تدور أحداث القصتين في السنوات التي تلت زيارة السادات إلى القدس (19 نوفمبر 1977) مرورا بتوقيع معاهدة كامب ديفيد (17 سبتمبر 1978)، ووصولا إلى اغتياله أثناء عرض عسكري في 6 أكتوبر 1981.
لا يذكر المؤلفان تواريخ محددة للوقائع، كما لا ينسبانها إلى مصادر، لكنهما يذكران أشخاصا كانوا على قيد الحياة وقت صدور الكتاب، وبعضهم لا يزال حيا. وتقول الحكاية الأولى إن المخابرات المصرية أوفدت أحد ضباطها إلى لندن للتواصل مع المثقفين والسياسيين المصريين المعارضين لسياسات السادات هناك، وبينهم الكاتب الساخر محمود السعدني، تمهيدا للانقلاب على السادات في حال تنفيذه مطلبا إسرائيليا بمد مياه النيل إلى إسرائيل. وقضى الضابط الشاب حوالي سنة بين أوساط المعارضين المصريين المنفيين في لندن، قبل أن ينتقل إلى الجزائر التي سبقه إليها لاجئا سياسيا الفريق سعد الدين الشاذلي. وكان الشاذلي رئيسا لأركان الجيش المصري في حرب أكتوبر، واختلف مع السادات حول طريقة القضاء على الثغرة التي دخل منها الجيش الإسرائيلي إلى الضفة الغربية من قناة السويس، وانتهى الخلاف بإقالته، ثم تعيينه سفيرا لمصر في لندن، قبل أن يتجدد الخلاف بتوقيع معاهدة كامب ديفيد، ويلجأ الشاذلي إلى الجزائر. ونقل الضابط الشاب إلى الشاذلي، وفقا للمؤلفين، رغبة المخابرات في الضغط على السادات سياسيا بإعلان ما سُمي وقتها \”جمهورية مصر العربية في المنفى\”، وإعلان الشاذلي رئيسا لها. ولم يكن ذلك الضابط الشاب سوى محمود نور الدين الذي ظهر في مصر، لاحقا، كمؤسس وقائد لتنظيم ثورة مصر الشهير، الذي استهدفت عملياته المسلحة أعضاء السفارتين الإسرائيلية والأمريكية في القاهرة.
وعلى مسار متواز لما كان يحدث في لندن والجزائر، وحسب ما ورد في كتاب بولوك ودرويش، كانت المخابرات المصرية أكملت خطة الانقلاب على السادات، في حال موافقته على مد مياه النيل لإسرائيل، بما في ذلك السيطرة على مبنى الإذاعة والتليفزيون، لكنها كانت تبحث عن ظهير شعبي لتبني الانقلاب عند حدوثه. أوفدت المخابرات ضابطين إلى البرلماني السكندري المعارض كمال أحمد، وكان من أعتى معارضي السادات في البرلمان المصري، في السبعينيات، وطلبت منه أن يتبنى الانقلاب داخل مجلس الشعب عند حدوثه، ليحصل على شرعية شعبية. لكن كمال أحمد خشي أن يكون هذا فخا نصبته له السلطة، فأبلغ عن الضابطين اللذين قابلاه، ووصل الأمر إلى السادات، ففشلت الخطة.
لم أستطع التحقق من القصتين، لكنني تحدثت إلى عادل درويش على \”فيسبوك\”، عام 2008، فأبدى دهشته من نشر الكتاب في مصر، وقال إنه لم يكن يعلم بأن هناك من ترجمه. وتحدث صديق لي، كنت قد أطلعته على الكتاب، إلى كمال أحمد، فأكد الرواية التي تخصه في الكتاب، لكنني تمنيت لو يحكيها بنفسه سواء ليدحضها أو يؤكدها أو ليوضح ما التبس فيها. وأيا ما كان الأمر، فإن القصتين تكشفان -إذا صحت وقائعهما- أنه ربما كانت هناك أجنحة في النظام قادرة على التدخل في حال إذا ما رأت داعيا ملحا للتدخل، حسب تقديرها للدواعي وخطورتها. فهل توقف الأمر بنهاية عصر السادات أم امتد إلى عصر مبارك؟ هل تعدى مبارك الخط الأحمر، عندما سمح لابنه جمال وأصدقائه من رجال الأعمال بالسيطرة على الحزب الحاكم، تمهيدا للتوريث؟ هل أغضبت مؤشرات التوريث قيادات الجيش، فرفعت أيديها عن مبارك؟ وهل غذّت المخابرات الغضب الشعبي، وسمحت له بالتراكم، إلى أن انفجر في 25 يناير 2011 في صورة ثورة شعبية؟ وهل تكرر الأمر نفسه مع الرئيس الإخواني محمد مرسي في 30 يونيو 2013؟
ليس بإمكان أحد أن ينزع صفة الثورة الشعبية عما شهدته مصر، لكن هل كانت ثورة مخابرات أيضا؟
هي أسئلة.
هي أسئلة.