يارا شاهين تكتب: "سبوتلايت".. الحكم للمُشاهد

في عام ١٩٧٦ قدم المخرج الرائع آلان باكولا فيلمه الشهير \”All the President\’s Men\” أو كل رجال الرئيس. وشهرة الفيلم لا تنبع فقط من كونه فيلما سينمائيا ممتعا وجذابا، بل من موضوعه أيضا، فهو يتحدث عن قصة الصحفيين الأشهر كارل برنستين وبوب وودورد في كشف قضية تجسس الجزب الجمهوري على مرشحي الحزب الديمقراطي في مبنى ووترجيت، والتي ستتحول لاحقا إلى \”فضيحة ووترجيت\” لتطيح بالرئيس نيكسون في عام 1974.

في ٢٠١٦ صدمت الأكاديمية الأمريكية العالم بمنحها أوسكار أفضل فيلم، لفيلم \” Spotlight\” سبوتلايت لتوم مكارثي. في الواقع صدمة الجماهير والمشاهدين في محلها، فالفيلم بسيط وتقليدي جداً، لا يحمل أياً من الغموض الذي يحمله \”كل رجال الرئيس\”، الذي اشتهر مُخرجه بأفلام مزاجية وأجواء البارانويا التي تجعلك طوال الفيلم قلقا على الصحفيين، رغم معرفتك المسبقة أنهما لم يصابا بأذى.

سيناريو \”سبوتلايت\” مكتوب بطريقة تقليدية مع تصاعد للأحداث بصورة متوقّعة تقريبا. نحن أمام مجموعة من الصحفيين يشكّلون قوام وحدة تحقيقات استقصائية تحمل اسم \”سبوتلايت\” في صحيفة \”بوسطن جلوب\”، تتتبّع قصّة تبدو هي الأخرى غير جديدة، فقضية الإستغلال الجنسي للأطفال من قبل كهنة الكنيسة الكاثوليكية ليست بغريبة أو مجهولة في 2016 بكل تأكيد. حتى الصحفيين في سبوتلايت لم يكونوا أبطالا يدخلون عشّ الدبابير في العاصمة، بل صحفيين مهنيين محترفين في سياق محلي جدا داخل مدينة بوسطن.

يبدو التمثيل متواضعا أو لنقل عاديا، لكن هذه هي أزمة الأفلام التي تقدّم قصصا حقيقة لشخصيات معروفة وموجودة بالفعل. مارك رافلو، مثلاً، كان معظم تركيزه على رسم شخصية صحفي جريدة بوسطن جلوب (التي تتبعها وحدة سوبتلايت) ليبدو مثله ويشابهه في طريقة كلامه. ربما فقط كانت راشيل آدامز أكثر دفئا في مشاهدها كصحفية تستمع لقصص ضحايا الاستغلال الجنسي، لكن في الحقيقة لا يستحقّ أي من الأدوار ترشيحات في فئة التمثيل. على العكس منه فيلم \”كل رجال الرئيس\”، حيث قام بأدوار برنستين و وودورد كل من داستين هوفمان وروبرت ريدفورد. لم أر وودورد ولا برنستين على الشاشة بالطبع (ربما إذا نقّبت في يوتيوب)، لكني أعلم جيدا من هما هوفمان وريدفورد (تقريبا شاهدت كل أفلامهما)، ومن كانا أمامي على الشاشة هما هوفمان وريدفورد، وليسا برنستين و وودورد.

لم يحصل \”كل رجال الرئيس\” على أوسكار أفضل فيلم، بل حصل على أفصل سنياريو مقتبس الذي يستحقّه بشدة، ولا يزال هذا الفيلم محفورا في ذاكرة محبّي السينما والشعب الأمريكي والصحافة الأمريكية، بل والعالمية ليذكّر بأن الصحافة في يوم من الأيام قامت بدورها وهزّت عرش الرئاسة الأمريكية. فلماذا إذا أوسكار أفضل فيلم لـ\”سبوتلايت\”؟ هل جاء ليحتفي بالصحافة الاستقصائية الحقيقية في عصر تسيطر فيه التوك شوز والفضائيات على المشهد الإعلامي.. في عصر تعاني فيه الصحافة المكتوبة من أزمة تمويل ومحتوى، عصرالسوشيال ميديا وعبادة \”الترافيك\” والرسائل النصّية القصيرة؟ ربما.

لم يحتفِ \”سوبتلايت\” بالبطولات الفردية لأبطاله، لم يكن هناك فيلم عن بطولة وحدة البحث الاستقصائي في الكشف عن هذه الجريمة الكبرى، لم يحتفِ بالمحامي الأرميني الذي حمل هذه القضية على أكتافه لسنوات وجمع أوراقها وثابر وراءها كما هو الحال في فيلم \”Erin Brokovich\” إيرين بروكوفيتش مثلاً. بالعكس لا يوجد لأي من تلك الشخصيات عمق، لا نعلم عنهم أي شيء خارج إطار القصة التي تتصاعد في كريشندو واضح. حكاية أحد الآباء الكهنة له تاريخ مع استغلال الأطفال جنسيا تتكشف قليلا لنكتشف أنهم 13 كاهنا، ثم نفاجىء بالعدد الذي يصل إلى ٨٧ أي ٦ ٪ من إجمالي الآباء الكهنة في بوسطن بأكملها. ٨٧ رجلا يثق فيهم المجتمع ثقة عمياء هم مصدر كابوس أي أمّ وأبّ.

يذهب فريق التحقيق لرئيس التحرير بمعلومات حول أكثر من أب كاهن يمارس الاعتداء الجنسي على الأطفال، يذهبون بخيوط متعددة وقصص كثيرة مؤلمة لعشرات من الناجين/ات، لكن رئيس التحرير يردّ: \”أنا لا أريد قصة أخرى من قصص التفاحة الفاسدة داخل سلّة التفاح الطيبة، هدفنا المنظومة وليس الأفراد\”.

منذ أقل من شهر قتل أمين شرطة مصري، سائق نقل في حي الدرب الأحمر الشعبي، وتبعت الحادثة سلسلة من ردود الأفعال من قبل كافة الأطراف: الصحافة ووزارة الداخلية والرئاسة وأهل الشاب المقتول وأهالي الدرب الأحمر، تباينت المواقف بين من يؤكد أنها تفاحة أخري فاسدة ومن يصرّ على أن السلّة بأكلمها تحتاج لمراجعة.

ربما يكون أداء مايكل كيتون من أهدأ وأعمق الأداءات التمثيلية في الفيلم. يلعب كيتون دور رئيس وحدة \”سوبتلايت\” روبي روبينسون (روبي كما يطلقون عليه)، ابن مدينة بوسطن، الصحفي الشهير الذي يحترمه الجميع ويخشى سطوته ووجوده. عندما تتكشّف لـ روبي وفريقه حجم الاعتداءات ليصبح جلّيا أن هناك انتهاكا جنسيا مُنظّما ومنهجيا للأطفال المتعاملين مع الكثير من الآباء الكهنة، فيصاب ابن بوسطن البار \”على الطريقة المصرية\” بالصدمة. يبدأ في توجيه الاتهامات لأصدقائه المحامين الذين تورّطوا هم أيضا في تسويّات قضائية مشينة لصالح 87 أب كاهن -على الأقل- لإنقاذ الكنيسة من الفضيحة، ليكون ردّ فعلّ أصدقائه مُلّخص في جملة واحدة: \”وأين كنت يا روبي من قبل؟\”.

في نوفمبر 2012 قرأت أول شهادة لإحدى الناجيات من العنف الجنسي في ميدان التحرير، استمرّت قراءتي لمزيد من شهادات الناجيات وأصبح ميدان التحرير مكانا مرعبا بالنسبة لي. منذ ذلك التاريخ دخلت في معركة يومية مع كلّ من أصادفهم لأقنعهم بأن هذه الإنتهاكات وهذا العنف يحدث لكافة النساء في الميدان على اختلاف توجّهاتهم وأشكالهم ومعسكراتهم، وأنه إذا كان لابدّ من الدعوة للجميع للتظاهر -رجالا ونساءً- فيجب الاعتراف بوجود مشكلة ويجب مواجهتها لحماية النساء. في \”سوبتلايت\” يقود بحث الصحفيين إلى اكتشاف حقيقة مؤجّلة، وهي أن كلّ بوسطن تقريبا كانت تعلم. المدرسة الثانوية التي درس بها روبي نفسه، والتي أشرفت عليها الكنيسة الكاثوليكية بها ناجين (من ضمنهم زملاء له في فريق الهوكي)، النيابة أيضا تورطت في التسويّات المشينة، والقضاء الذي منع ظهور مستندات تثبت معرفة رأس كنيسة بوسطن الكاردينال \”لو\” (معناه بالعربية قانون) بكل ما اقترفه كهنته من انتهاكات، وبالطبع الشرطة متورطة في ذلك \”أنت لا تريد أن ترى الأصفاد في أيدي أب كاهن\”، هكذا يقول ظابط الشرطة لأحد الصحفيين. الجميع يعلم والجميع متواطيء.

على مدى أكثر من ثلاثين عاما استمرّت ماكينة التواطؤ المجتمعي المتناغمة في العمل في مدينة بوسطن وتركت مئات من الأطفال عرضة للخطر، تركوا الضحايا وهم الأكثر عرضة للتنكيل نظرا لظروفهم الأسرية والاجتماعية، فمعظم الأطفال كانوا من العائلات الفقيرة، أو ليس لديهم أب، أو الأم مريضة نفسيا.

التواطيء تم تطبيعه لدرجة أن أحد القساوسة الضالعين في الانتهاكات تحدّث بمنتهي السلاسة مع الصحفية، واعترف أنه بالفعل ارتكب انتهاكات جنسية، لكنها لم تصل أبدا للاغتصاب، فهو يعلم الفارق بين الإثنين!

في ظنّي، يعود إيقاع فيلم \”سبوتلايت\” الهاديء والرتيب -أحيانا- إلى تعمّد من جانب فريق العمل ليقرأ كلّ منّا ما بين سطور تلك القصة المؤلمة، وربما يكون ذلك هو السبب وراء حصوله على أوسكار أفضل فيلم.

لم يكن \”سبوتلايت\” عن بطولة البوسطن جلوب وفريقها، الذين يعملون وفق منظومة تحمي الصحافة والصحفيين وتلزم الدولة ومؤسساتها بتقديم المعلومات وإتاحتها. لم يمجّد أفرادا قاتلوا من أجل أن تظهر الفضيحة للعالم، لم يكن غرض السيناريو -الذي في ظني أراد كُتّابه عن قصد أن يكون باهتاً- أن يتبحّر في عالم الكنيسة الكاثوليكية والمنظومة التي تحوّل 6% من الآباء الكهنة إلى معتدين على الأطفال.

السيناريو الباهت أراد ببهتانه أن يظهر كل هذا التواطيء المنظم لسنوات، ويبقى البطل الحقيقي هو مجتمع بوسطن، أهل بوسطن إن صدق التعبير، وقدرتهم على مواجهة هذه الكارثة المشينة. البطل هو أهالي بوسطن المتواطئين طوال سنوات، إذ يواجهون حجم المآساة التي تسبّب تواطؤهم وصمتهم في تصاعدها. في صبيحة يوم نشر التحقيق في 2002 يجلس روبي وفريقه ورئيس التحرير ليراجعوا آخر الخطوات قبل النشر، ينفجر الجميع في حالة تطهرّية، يتهّمون فيها المحامين تحديدا بأن صمتهم لسنوات ترك الكارثة تتفاقم، يتعالى صوت آخر بأن المحامين كانوا يقومون بعملهم ومهام وظيفتهم، ثم فجأة يعترف روبي أن أحد هؤلاء المحامين أرسل له في عام 1993 قائمة بأسماء 20 قسا متورطا في انتهاكات جنسية، ولكنه لم يهتمّ وقتها ودفَنَها في الصفحات الداخلية للجريدة. \”المهم هو اليوم، إننا ننشر هذه القصة الآن\”، هكذا كان ردّ رئيس التحرير القادم من خارج مدينة بوسطن ليدعو الجميع لمواجهة التواطؤ والاعتراف به والعمل على تغييره.

مع نهاية عام 2002 وإثر الفضيحة الكبرى التي كان لها مزيد من الآثار في العالم بأكمله في الكشف عن الانتهاكات الجنسية للأطفال من قبل الكنيسة الكاثولكية، يضطرّ الكاردينال لو إلى تقديم استقالته من على رأس كنيسة بوسطن.

في 2004 يقوم البابا يوحنا بولس الثاني بوضعه على رأس أحد أهم الكنائس بروما.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top