يارا شاهين تكتب: "زي عود الكبريت".. أكثر من مجرد تهييس

 

يعرض في سينما زاوية طوال هذا الأسبوع فيلم \”زي عود الكبريت\”. الفيلم من إخراج الراحل الجميل حسين الإمام، وإن أتم المونتاج والإخراج النهائي ابنه يوسف بعد وفاة والده.
يقوم الفيلم على فكرة بسيطة وهي تركيب قصة وهمية بمشاهد يظهر فيها حسين وزوجته سحر رامي على مقتطفات من أفلام الأبيض والأسود جميعها فيما يبدو من إخراج والده حسن الإمام، وأظن أيضا إنتاجه، ولهذا كانت سهولة حصوله على حقوق استخدام هذه المشاهد وتجميعها مع المشاهد الجديدة التي تم تصويرها بالأبيض والأسود، ليخرج في النهاية فيلم -أو لنقل ما اتفقنا على تسميته فيلما- وليس فاصلا \”بارودي\” متواصلا وطويلا يسخر من ويحتفي في نفس الوقت بالسينما المصرية في طبعتها من الأربعينيات حتى السنوات الأولى من الستينيات.

لا أظن أن حسين الإمام أراد فقط كما كتب على تترات الفيلم الإحتفاء بأبيه حسن الإمام أحد أهم أعمدة هذه المرحلة بداية من الأفلام الملحمية أو أفلام الصعبانيات -إذا جاز التعبير- الممتزجة دائما بحالة احتفالية واسعة ولمسة من بعض مشاهد الإغراء وبعض الأغاني وهكذا.

فتوليفة أفلام حسن الإمام ذات طابع خاص يستطيع أن يمزج تلك الحالة بين قصة واقعية تكون دائما أبدا فيها ضحية وشرير، ويعود فيها طرف ما نادما في النهاية بوصلة موعظية طويلة، لكن في منتصف الفيلم سيكون هناك اسكتش ورقص شرقي وبعض مشاهد الإغراء.

لكن حسين الابن لم يحتف فقط بتوليفة أبيه الشهيرة، لكنه كان يحتفي ويسخر بخفة من تيمات السينما المتعددة في هذا الوقت.
فهناك أسرة متفسخة يخرج منها، ورجل طيب بيربيه.

هناك السجن أو الإصلاحية، فنتذكر فورا كافة نسخ أمير الإنتقام والدهاء والكونت دي مونت كريستو وجعلوني مجرما وأربع بنات وظابط، وكافة تيمات اللقاء في السجن أو الهروب من السجن أو الفرصة أو العقدة التي تظهر في السجن.

ثم يبدأ فاصل من أفلام العصابات، العصابات الشيك كعصابة عصمت كاظم/رشدي أباظة في فيلم الرجل الثاني أو العصابات الشعبية على طريقة المليجي وزكي رستم في سلسلة أفلام صلاح أبو سيف المعروفة وبطلها فريد شوقي.

ثم أفلام الكابريهات وهي متعددة ودائما ما يمكن ربطها بأفلام العصابات، وبها ميزة هامة إنه من الممكن إضافة رقصة وغنوة أو اسكتش بسهولة تنعش الفيلم القاتم. كذلك طابع أفلام الغموض الذي تخصص فيه كمال الشيخ، فهناك شبح ما يظهر ويختفي وهكذا.
لم يكتف حسين الإمام بتصنيف تيمات أو موضوعات أفلام المرحلة، بل أيضا قام بإستدعاء تنكيكات أو مشاهد ثابتة في تلك الأفلام. هذا العصر كان يصعب فيه بالتأكيد التصوير الخارجي، ولم تكن الكامير فيه صغيرة دقيقة يمكن وضعها على سيارة، فلذا تظهر كافة مشاهد السيارات وهي ثابتة يحرك المقود \”الدريكسيون\” البطل وكأنه يقود بالفعل السيارة، لكن الكل يعرف أنه \”لا في سيارة ولا شارع ولا بنزين\”.

نتذكر أغنية \”عيني بترف\” وليلي مراد وعشرات من مشاهد أنور وجدي وعماد حمدي ومشاهد القيادة المستهترة أو المكلومة التي تنتهي بمأساة حتى لو في داخل الاستوديو.

استخدم أيضا حسين الإمام -أو لنقل تهكم على- مشهدا كلاسيكيا في السينما المصرية وهو البرق والرعد المصاحبين لحدوث الخطيئة بين بطل وبطلة الفيلم.

طبعا من المعروف أن هذا المشهد الخالد كان بديلا لمشاهد إغرائية يصعب تنفيذها خوفا من اعتراض الرقابة أو الممثلين أنفسهم زي الست فاتن حمامة.

ولعل اختيار اسم الفيلم ذاته يعبر عن جملة أخرى خالدة ليست فقط في قدسيتها، بل أيضا في التهكم عليها في الفيلم الأعظم \”ابن حميدو\”، ومشهد المطبخ بين إسماعيل ياسين وزينات صدقي \”ده زي عود الكبريت مايولعش تاني أبدا\”.

تصل حالة التهكم المستمرة أو \”السف\”، وهو المصطلح الذي أفضل استخدامه، لذروتها، عندما يقول حسين الإمام: \”حتنامي أنتي هنا على السرير في الأوضة، وأنا حنام برة على الكنبة.. محدش تاني غيرنا في الدنيا بيعمل كده بس مش مشكلة\”.

هناك أيضا مستوى آخر بعد الخطيئة وهي الطفلة/الطفل الذي سيولد في السر، وتربيه أم بريئة ضحية ظروف، حتى يظهر الأب في وقت ما ويقابل ابنه/بنته الذي لم يعرف عنهم شيئا لسنوات، وسبحان الله طبعا. ويمكن هنا أن أعدد أسماء أفلام لا متناهية من \”موعد مع السعادة\” لـ \”الخطايا\” لـ \”ياسمين\” وغيرها من الأشكال المختلفة لتلك النوعية من الأفلام.
ولأن مواضيع الشرف والضحية التي يغرر بها والبوليس الذي يظهر فجأة في نهاية الفيلم والمواعظ اللانهائية وغيرها من سمات أفلام ذلك العصر هي جزء أساسي من الفيلم المتخيل، فإن الإمام لم يعد إنتاج تلك التيمات فقط بتركيب المشاهد بشكل تهكمي وذكي، ولكن كان لابد أيضا من استدعاء الممثلين الذين ارتبطت تلك المعاني والتيمات بهم ومعهم. فلأن هناك عصابة وكباريه، فأكيد هناك فتيات الكباريه وهن أنواع، فمنهن المتعاونة والمتطلعة كماجدة الخطيب (التاتش الستيني الوحيد خارج الإطار قليلا)، وهناك التي سترتمي في أحضان الجريمة والخطيئة بس حتندم في آخر الفيلم، ودي طبعا هند رستم، وفي بقى الست الشريفة طوال الوقت، التي ستقاتل السقوط في المستنقع، ومن لها سوى فاتن حمامة.

ولم يرحم حسين الإمام، عماد حمدي و\”نينته\” الست أمينة رزق، ليصنع منه قاتلا محترفا، ومن \”نينته\” تاجرة حشيش!

وفي منتصف الفيلم قليلا، شعرت بأنه حان الوقت لشرير للفيلم، ولم يكذب حدسي، وظهر محمود المليجي الذي سيظل شرير الشاشة لسنوات، حتى ينطلق من محبسه مع يوسف شاهين في الستينيات والسبعينيات.

ولأن أيا من أفلام تلك المرحلة لم تخل من القصور الفارهة وحفلات البشوات الغامضة ذات الفقرات، فكان لابد من ظهور سراج منير وحسين رياض كبشوات أصيلين، يرتفع صوتهم أولا برفض الموروثات أو التجاوزات الطبقية، ثم فجأة تعلوهم حكمة مفاجئة، أو يباغتهم الندم، فيصلحوا كل حاجة ويجوزوا العيال ومنير يتجوز سوزي وهكذا.

فيلم \”زي عود الكبريت\”، وضعني في تجربة لم أتخليها، وهي استدعاء موروث ومخزون السينما المصرية القديمة، أو كما نسميها أفلام الأبيض والأسود بتيماته وكادراته وممثليه ومخرجينه، بنوستالجيا مجردة من مشاعر الحزن على الذي كان، بل على العكس، هي ممزوجة بسخرية واحتفاء معا، بآلاف من ساعات المشاهدة التي قضيناها أيام الجمع والآحاد أمام تلك الأفلام نبكي أحيانا ونضحك أحيانا، ثم كبرنا لنسخر في كل الأحيان.

هو أيضا اعتمد على أفلام غير مشهورة أو كثيرة العرض لحسن الإمام، منها فيلم \”بنت من البنات\” الذي يغني فيه نور الشريف في بداية مشواره \”اسكتش\” على مسرح بصوت ضعيف جدا، لكن الأُذن مصرة على الحفاظ على اللحن.

لكن رغم أن فيلم \”زي عود الكبريت\” اعتمد على مشاهد من أفلام قليلة جدا، إلا أنه استطاع في ساعة ونصف أن يلخص سنوات من الإنتاج السينمائي المصري الذي طالما امتعنا، وإن دل فإنما يدل عن حساسية حسين الإمام وذكائه ووعيه بتطور تلك الحرفة، ومفردات هذا العالم.. فشكرا ووداعا لروحه الجميلة الرقيقة التي أمتعتنا طوال حياته وبعد وفاته.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top