وهيبة صالح تكتب: هل تتغلب الثقافة على الموروث؟


لا اعتقد.. إذا لم تتشابه الثقافة مع الموروث، فهي تسقط أمام الموروث، فأنا نشأت في مجتمع رسخ في قلبي المعنى الحقيقي للعدالة الاجتماعية.. البيوت متلاصقة.. يفصلها شوارع متساوية   متقاطعة، لها لون واحد.. بيت مدير المدرسة ملتصق ببيت فراش المدرسة.. بيت المهندس ملتصق ببيت عامل النظافة، وكل بيت مزين بمصطبتين حول المدخل.. يعود المهندس ببذلتة   الأنيقة، والعامل بعفريتته المتسخة من جمع القمامة، إلى بيتهما المتجاورين، وفي وقت العصاري، يخرج كل منهما مرتديا جلبابا أبيض ناصعا، حتى إنك لا تفرق بينهما.. أيهما المهندس وأيهما عامل النظافة.

أما أنا عندما اصل إلى بيتي هناك.. اخلع عني الجينز والتيشرت، وارتدي جلبابي الذي لا يختلف عن جاراتي في الشارع إلا في اللون أو الزخرفة.

في الصباح الباكر تفتح الأبواب, وتخرج الفتيات وأنا منهن.. كل منا ممسكة بالمقشة \”المكنسة\”، لتبدأ يومها بالتنظيف أمام المنزل.. اكنس النصف أمام المنزل، وجارتي أمامي تكنس نصف الشارع أمام منزلها، وإن كانت جارتي مريضة، اقوم عنها بالتنظيف.. ولما لا؟! فهي تداوم على التنظيف أمام بيتي طوال فترة غيابي في السفر، وفي خلال نصف ساعة يصبح الشارع بطوله   نظيفا حتى من آثار الأقدام.. تشعر أنك أمام عرض مسرحي فلكلوري.

ثم تدخل كل منا إلى الداخل لاستكمال التظيف داخل المنزل، وبعد ساعة التنظيف، نخرج لنجلس على مصطبة أكبرنا سنا، فتشعر بقيمة العدالة الاجتماعية، وتنشأ عليها قبل أن تعرف أو تقرأ مصطلح العدالة الاجتماعية.

لعبت في الشارع مع أولاد وبنات، دون أن تقول لنا أمهاتنا: عيب، وإن اللعب مع الأولاد لا يصح، فكبرت على المساواة بين الرجل والمرأة، وعندما يزورنا أحد من شباب العائلة.. اجلس معه، واحكي كما احكي مع بنات العائلة، فتعلمت كيف احدد مشاعر الحب الحقيقية، فلا تلتبس عليّ الرغبة في أن اكون أنثى، فاحصل على إعجاب من كل رجل تقع عليه عيني، ولا تلتبس عليّ أيضا الرغبة الذكورية في قهر قلب كل أنثى تقع عليها عينيه، فنعرف الفرق بين الحب والأخوة والصداقة.
نشات في مجتمع لا يتحقق في قهر المرأة وضربها، فلا توجد رغبات مريضة مكبوتة.

لكن عندما خرجت من بيئتي النوبية الصغيرة، وتعاملت مع كل الشرائح.. كانت الصدمة، حين ادركت كيف يتغلب موروثنا المجتمعي علي ما نقرأه في الكتب، فأرى زميلا في العمل، اعلم أنه قارىء جيد ويتشدق علينا بما قرأه عن افكار العدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان، وحين يركب سيارة العمل، يكتفي بالإشارة مع سائق السيارة الذي يقبض راتبه من نفس الصراف الذي يسلمه راتبه، وحين يتحدث إليه يعطيه الأوامر أن يأتي بالمدام من عملها، ويأخذ ابنه في طريقه   للدرس، وقد يصل إلى حد إحضار طلبات الغداء من السوق!

وحين اسير بالصدفة بجوار برج من الأبراج التي تدل على أن قاطنيها من الطبقة التي أنعم عليها بيسر الحال, تلقي إحداهن بكيس أسود يحمل فضلات طعام، كان من الممكن أن تشبع أسرة كاملة.. تلقي بها من النافذة غير عابئين على من ستسقط, أو أن تسير في الشارع وتجد عامل النظافة ينحني ليقوم بوظيفته في تنظيف الشارع، يحاول أن يساعد الآخرين على أن يسيروا في شارع يشعرهم بإنسانيتهم, فترى سيارة فارهة تمر بجواره، يلقي صاحبها بقاذوراته بجوار العامل، وكأنه يرغب بعجرفة طبقية في جعله منحنيا طوال الوقت, أما العامل، فهو متيقن أن راكب السيارة الفارهة، لا يراه أصلا.. صاحب السيارة الذي هو حتما يقطن في برج عال يخترق السماء، وحوله عشش الصفيح التي يقطن فيها عامل النظافة.. فلا قاطن البرج يرى عامل النظافة وهو ينظر إلى الأرض، ولا عامل النظافة المنحني ظهره طوال اليوم، يستطيع أن يرفع رأسه ليشاهد قاطن البرج, وقد تجد أن العامل يترسخ داخله أن الناس درجات, والعين ما تعلاش على الحاجب, حتى إنه لا يستوعب كلمة العدالة الاجتماعية.

والأسوأ، هو ما رأيته في الوسط الثقافي، حين يتكلم أحدهم في التلفاز عن العدالة الاجتماعية، ويدغدغ مشاعر المشاهدين، لكنه حين يحكي مع أصدقائه عن شخص ما غاضب منه، فيقول بتعال: هل نسي نفسه؟ ألا يعرف \”هو مين وأنا مين\”!

ومن ينادي بالمساواة بين الرجل والمرأة على صفحات الجرائد وفي المؤتمرات, لكنه يمكن أن يهين زوجته ويضربها، وامرأة أخرى تناضل وتنادي بالمساواة والتحرر، لكنها تستمتع حين تُضرب أو تُهان من شريكها، أو تدعي شعورا بالاستمتاع، لتمنحه شعورا ذكوريا متفوقا كاذبا. وكثير من الأمثال، التي تفضح حقيقة أنه إذا لم نخرج من البيت بنفس القيمة التي نقرأها في كتب الفكر والأدب.. حتما ستسقط مع أول لحظة غضب، أو امتحان حقيقي مع المجتمع, فما قيمة أن اكون مثقفا قارئا للكتب التي تحرض لإعلاء قيم الحريات والعدالة الاجتماعية، وحين تصطدم بحائط الموروثات الخاطئة الراسخة داخلنا.. تسقط.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top