وهيبة صالح تكتب: مجدي عبد الملاك الذي صمد بـ "ريش" أمام قبح الانفتاح الاقتصادي

\”مدرس التاريخ الغلس\”.. كان هذا توصيفي لمجدي عبد الملاك مالك كافيه ريش, في 2003 عندما ذهبت مع أصدقائي بعد إعادة افتتاحه, كان يجلس على يمين الداخل خلف مكتبه بابتسامته المتحفظة, فيدخل رجل يطلق لحيته مصطحبا امرأه منتقبة ربما تكون زوجته, فيبادر بصوت حاد \”ده بار يا بيه\”، فيرتبك الرجل ويشعر أنه دخل مكانا سىء السمعة، ويخرج مهرولا متمتما ربما بعبارات الاستغفار, أو يدخل شاب بصديقته ويطلبا عصير، فيرسل من يقول لهم: \”ده مطعم\”، فيغضب الشاب وربما ينهر عم مجدي أو يتهمه بالجنون.

في البدايه كانت هذه المواقف تزعجني وأحيانا تصّدر لي إحساسا منفرا من المكان, فأجد من الزبائن القدامى من يشرح لي مبرر عم مجدي من تصرفه تجاه أشخاص يرى أن اعتيادهم للمكان سيغير من هوية المكان. مرت سنوات لي في المكان.. الألفة مع المكان والوجوه تنمو، وكثير من زبائن الكافيه قد يجلس لساعات طويلة تشغل مكانا داخل الكافيه ولا تحتسي غير فنجان القهوة, وبمراقبتي لهذا الرجل كنت ألاحظ أنه ربما يعزم بعضهم على الطعام أو شراب على حسابه الشخصي.. اختيار زبائنه لم يكن طبقيا كما يدعي البعض.. كان في مقدوره أن يفتحه للجميع وأن يجني أموالا طائلة، ونحن نعرف الثروة الحقيقيه في هذا الوطن يمتكلها من, بالطبع لن تكون في يد المثقفين أو الكتاب أو النشطاء, كان يكفيه الأفواج السياحية التي تأتيه خصيصا لتلتقط صورا داخل الكافيه وبجوار بورتريهات قاماتنا الثقافية والفنية, والتي كان أصحابها يرتادوها ويتبادلون قراءة قصائدهم الشعرية ونصوصهم الأدبية أو الملتقى الأدبي يديرها نجيب محفوظ, والبيانات السياسيه التي تكتب فيها وتخرج منها.

وفي أحداث ثورة يناير كان يتغاضى عن منهجه, لأجد في المكان ما كنت أراه في ميدان التحرير.. النشطاء والكتاب وكل التيارات السياسية، واضحك عندما أرى سلفي وزوجته المنتقبة تجلس على طاولة بجواري يستريحوا قليلا قبل العودة للميدان.. كان يشعر أن هذا تاريخ المكان وأنه في هذه اللحظة التاريخية لا يستطيع إلا أن يفعل ما يمليه عليه تاريخ المكان.. اختبأ فيه الثوار هربا من بلطجية مبارك وخبأهم في القبو.. حمى كثيرا من المارين في الشارع عندما كان يلقى عليهم الغاز المسيل للدموع دون أن يسأل عن هويتهم أو انتمائتهم.

استغرب جدا من البعض في مهاجمة المكان والسخرية منه.. ريش لم يكن المقهى الثقافي الوحيد في ميدان طلعت حرب، بل كان يسبقه جروبي وأماكن أخرى كثيرة.. أين هي الآن؟ لم تعد موجودة, لأنها لم تجد أحدا يدافع عن تاريخها في المكان.. تحولت كل مقاهي ومحلات وسط البلد التي كانت قطعة من أوربا إلى محلات لبيع الأحذية والملابس, ولا اعتقد أن هناك مثقف واحد يرتاذ جروبي اليوم.. هذا الرجل تكبد الكثير من اللوم والهجوم والخسارة المالية ليحافظ على شكل المكان.. لم يعد في الميدان مكانا يذكرنا بتاريخ وسط البلد إلا كافيه \”ريش\”، لو لم يفعل هذا لما وجدته في المنشورات السياحية التي يحملها السائح في حقيبته ويخصص له يوما للزيارة كما يخصصه للمتحف المصري.

اتعجب ممن يهاجمونه، فهم أنفسهم من تضرروا مما حدث من تغيير لمقهى البستان حين مات صاحبها، فكانت النتيجه أن هجرها الجميع واكتفى البعض بالجلوس على مصطبة المقهى احتماءا بها من زحف وجوه غريبة، فهجروها معظمهم.

هؤلاء المهاجمين للمكان، هم أنفسهم من سيأتوا بعدها ليبكوا على القبح الذي يزحف ويأكل كل ماهو جميل أمامه.. هل سيسعدون حين يرون المقهى وقد تحول إلى محل للأحذية؟ ألا يكفي أنه يحمل بعض من رائحة منيرة المهدية وأم كلثوم ونجيب محفوظ وأمل دنقل وغيرهم, وفي قبو المكان الذي رممه بأموال طائله ولم يفتحه للزبائن، مطبعة ثوار 1919 التي استخدموها في طباعة منشوراتهم، والبار القديم الذي يفتح على ثلاثة مخارج ليهرب منها الثوار فرادى حتى لا يُقبض عليهم.. مخرج يفتح على شارع هدى شعراوي، والآخر على ممر مقهى البستان والثالث على ميدان طلعت حرب.

كان من الممكن أن يفتحه ويدر عليه أرباحا هائلة، لكنه اكتفى أن يحرسها كما يحرس أبو الهول جبانة الجيزة.

ثلاث سنوات وهو يحاول أن يمنح المكان لوزارة الآثار ووزارة الثقافة ويكتفي بالإدارة.. كان هاجسه أن ينتهي المكان بعد موته, وماطلت وزارة الثقافة والآثار حتى وافته المنية أول أمس.

في هذا المكان جزء من تاريخ أمة، استمر لأكثر من مائة عام, حين ينتهي سينتهي بتاريخه، ومجدي عبد الملاك لم يكن إلا حارسا أمينا على تاريخ المكان.. رحمة الله عليه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top