وليد فكري يكتب: نوع جديد من الإرهابيين في زماننا السعيد!

لكم دينكم ولي دين (23)

تحضرني حاليا عبارة قالها الفنان حسن حسني للفنان أحمد عيد في فيلم \”ليلة سقوط بغداد\”، حين قال له: يؤسفني أقول لك يا ابني.. أمك في خطر!
\”أمنا\” -بل ونحن جميعا- في خطر حقيقي! فالمؤشرات تقول إن عصر الإرهابي المتشدد ذي اللحية الكثة والجلباب والكلام المتقعر (الصورة النمطية للإرهابي) بدأت في الإنزواء، ليفسح الآن المجال لنوع جديد من الإرهابيين: الإرهابي البلطجي/الشبيح/الصايع، لو سمحتم لي بالتعبير، الذي \”لا يركعها\”، بل وربما هو مرتكب لكل المحرمات السلوكية.. (واعتقد أن من نافلة القول تأكيدي أن ليس كل ملتحٍ مرتدٍ للجلباب أو مستخدمٍ للغة المتقعرة، هو إرهابي أو حتى متطرف بالضرورة)

نحن الآن بصدد مواجهة الإرهابي غير المتشدد دينيا، بل وربما غير الملتزم أصلا، بل هو ذلك المتعصب دينيا فحسب.

دعوني أولا أشرح الفرق بين كل من المتشدد والمتعصب، فالأول هو إنسان تخطى حد الالتزام الديني لحد التشدد في أحكام الشريعة، فهو يتوسع في التحريم ليس لما فيه إجماع على تحريمه فحسب، بل لما فيه ولو ذرة شبهة تلوح من بعيد، وهو -وإن كنت لا أوافقه في تشدده- ليس بالضرورة متعصبا ضد الآخر، بل ربما وجدناه مكتفيا بنفسه، متشددا على شخصه لا على من سواه.. مع الإقرار بالطبع بأن المتشدد قد تقود المغالاة فيه إلى الوقوع في آفة التعصب.
أما المتعصب، فهو ليس بالضرورة متشددا دينيا، بل ربما لا يكون ملتزما من الأساس.. فقط هو مغالٍ في التحيز للفئة التي ينتمي لها دينيا بغض النظر عن مدى التزامه بالضوابط السلوكية لهذا الدين من عدمه، وتعصبه يتدرج بين مزدرٍ للآخر أو محرضٍ ضده أو ممارسٍ فعلي للعنف اللفظي أو الفعلي في مواجهة هذا الآخر.
وهما نموذجان لا يقتصران على المنتمين للدين الإسلامي فحسب، فيمكننا بسهولة أن نراهما في مختلف العقائد والأديان منذ فجر التاريخ وإلى ما شاء الله.

عن هذا المتعصب غير المتشدد، أو غير الملتزم، نتحدث.

**********
أنا انتمي لجيل الثمانينيات، شهدت فترة الإرهاب الدامية منذ بداية عقد ثمانينيات القرن الماضي وحتى منتصف تسعيناته، أسماء مثل النقيب الشهيد علي خاطر، الشهيد الدكتور فرج فودة، الشهيد الدكتور رفعت المحجوب، الطفلة الشهيدة شيماء تلميذة مدرسة المقريزي، هي أسماء مألوفة لي، تحمل معها ذكريات جد موجعة.

خلال تلك الفترة -وحتى السنوات الأخيرة- كان المألوف عن الإرهابي هو أنه شخص متشدد في أمور الدين من عقيدة وشريعة إلى حد تكفير أو تفسيق من يختلفون عنه، واستباحة دمائهم.. هو إذن إرهابي صاحب أيدولوجيا يرى في العنف سبيلا مشروعا بل ومرغوبا فيه لخدمتها.

هذا النوع من الإرهابيين من السهل رصده ومراقبته ومجادلته وتحليله وتوقع تصرفاته، أو لأكون أكثر دقة فإنه أسهل في ذلك من النوع الجديد المستحدث من الإرهابيين.

هذا النوع الجديد من إرهابيي زماننا الذي يتحفنا بالمباهج، هو إرهابي بلا فكر ولا توجه سوى تعصبه لاسم الدين الذي جاء إلى الدنيا فوجد نفسه يحمله في أوراقه الرسمية.. هو لا يعرف لماذا يتعصب لهذا الدين، فضلا عن استمراره في الانتماء له أصلا!

مجرد التدقيق في بعض أحداث العنف \”الديني\” على مستوى العالم، يكشف لنا عن دخول هذا النموذج إلى عالم الإرهاب.. كم من عملية إرهابية اتضح أن منفذها غير ملتزم دينيا، بل وربما منحل سلوكيا؟ كم من واقعة عنف عشوائي جماعي طائفي الدوافع، شارك فيه أفراد لا يٌعرف عنهم التدين؟

أذكر أنني يوما كنت أشاهد تسجيلات فيديو لبعض المظاهرات العنيفة عند السفارة الأمريكية بالقاهرة بعد ظهور الفيلم المسيء للرسول محمد صلى الله عليه وسلم، فوجئت ببعض من يقذفون السفارة بالحجارة يصرخون بهيستيريا \”إلا رسول الله يا ولاد دين الكلب\” (اعتذر عن اللفظ لكني أوردته هنا للإثبات)، كما أذكر أن بعض أحداث العنف من قِبل أنصار الرئيس المعزول محمد مرسي خلال فترة توليه السلطة، قد اشترك فيها بعض من عرفوا بأنهم أبعد ما يكونون عن الالتزام، بل ربما كان بعضهم معروفا بإدمان المخدرات والخمور!

وقبل أن يسارع البعض بتفسير مسلكهم أن دافعه سياسي بحت وليس دينيا، فإن هؤلاء كانوا خلال قيامهم بالأفعال سالفة الذكر يرفعون الهتافات الدينية وشعارات نصرة الحكم بشرع الله!

بل وأضيف أنني قد احتككت مباشرة ببعضهم (وبالتأكيد كانت تجربة غير لطيفة بالمرة، خاصة مع قيام بعضهم بترك رسالة مكتوبة بها ما لذ وطاب من سباب بذيء يمس الدين والعرض في ورقة معلقة على شباك شرفة غرفة مكتبي ببيتي!)

المفروض أن تستفز مثل تلك الملاحظات -التي لا يعقل أن أكون الوحيد الذي لاحظها- المراقب المدقق في الأحداث، ليدرك أننا أمام نموذج جديد ممن يمارسون العنف الديني -من أبسط درجاته- وصولا للإرهاب في صورته الشائعة.

السؤال هو: ما تفسير تلك الظاهرة الجديدة؟

الحقيقة العملية هي أن تفسيرها لا يمكن أن يقتصر على بضعة أسطر في مقال، بل إنه يحتاج لمجهود علمي عملي من المختصين بعلوم النفس والاجتماع والإجرام، للوقوف على الأسباب والتوقعات وسبل المواجهة والتعامل الجدي.. (وأؤكد هنا أن التعامل الأمني لا يكفي، بل لابد من وجود خطة تعامل علمية قوية وإلا فكل مجهود مبذول هو عبث.)

يمكنني فقط أن أورد بعض التفسيرات

-التي تبقى بسيطة سطحية ومباشرة-منها على سبيل المثال سعي بعض هؤلاء ممن يشعرون أن \”حسابهم ثقيل\” بالذنوب والتقصير.. أنهم يريدون \”خروجا آمنا\” من الحساب الأخروي، هذا الخروج الآمن يتمثل في نيل ما يتصورون أنه الشهادة من المنطلق الشائع أن الشهيد ينجو من الحساب، أو على الأقل \”معادلة\” الذنوب بنيل ما يرونه الثواب العظيم للجهاد.

كذلك فإن منهم من يرى في نفسه ضعفا عن ترك الموبقات والتزام الطاعات، فهو يريد \”المساعدة\” على قيام ما يتوقع أنه حكم ديني صارم يجبره أن يلتزم دينيا.

وبينهم أيضا نسبة لا بأس بها ممن ينظرون للانتماء الديني من منطلق \”قبلي\” بحت، فهم يتعصبون له لأبعد الحدود إلى درجة ممارسة العنف والإرهاب لمجرد أنهم ينتمون له، كنوع مما يستقر في وجدانهم من تفسيرات لقيم مثل \”النخوة، الرجولة، الصلابة في نصرة الفئة المنتمي لها\”.

على أن كل تلك التفسيرات تبقى -كما أسلفت الذكر- مجرد تفسيرات سطحية غير متعمقة ولا صالحة للتوظيف علميا دون استخدام آليات البحث والاستقصاء والتحليل المتعلقة بالعلوم الإنسانية ذات الصلة.

فلنعتبر إذن أن هذا المقال هو بمثابة تحذير قوي أننا بصدد مواجهة إرهابي جديد لا يمكننا توقعه أو الاحتراز منه، وهو بحق أخطر الأنواع التي يمكن أن نواجهها في تلك المرحلة المرعبة من التاريخ، حيث ينتشر جنون العنف بسرعة مرعبة على كل المستويات!

(يتبع)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top