سؤال:
لو أسندت إليك وزارة الثقافة في دولة بها من الأمية الثقافية ما يفوق أمية القراءة والكتابة.. لو أنك قد توليت وزارة يتفق كثير من المثقفين -على اختلاف توجهاتهم السياسية والفكرية- أن ليس لوجود وزارة باسمها محل من الإعراب في أية دولة يراد أن ينفصل العمل الثقافي بها عن توجيه السلطة التنفيذية.. لو أن السؤال الأول فور توليك الوزارة كان \”من هو فلان ليتم اختياره وزيرا للثقافة في حين أن بالساحة الثقافية من هم أكثر منه ثقلا وجدارة وأطول منه باعا في هذا الحقل؟\”.. لو أنك قد جئت إلى العمل في وزارة الثقافة من المؤسسة الأزهرية، وبالتالي فأنت تعلم أنك لا تمثل نفسك فحسب بل تمثل مؤسستك الأم وتمثل قيمها وأخلاق المنتمين لها.. ماذا كانت لتكون أولوياتك؟
يمكننا أن نستفيض في الإجابة عن هذا السؤال، وأن نطرح الآراء والأفكار المختلفة، لكن من المؤكد أن تلك الأولويات لن تكون متعلقة باللياقة البدنية للعاملين في الوزارة!
في يوم الأحد الماضي كان السيد عبدالواحد النبوي وزير الثقافة يتفقد متحف محمود سعيد بالأسكندرية، وعندما طرحت أمامه الأستاذة عزة عبدالمنعم أمينة المتحف شكوى إدارية بشأن استحقاق يتعلق بدرجتها الوظيفية، فوجئت بأن ما جاد به عليها كان: \”أنا عندي مشكلة مع التخان.. انتي محتاجة تخسي\”، ثم بدأ في توجيه \”النصائح\” لها حول كيفية فقدانها الوزن الزائد من خلال اقتراحه عليها أن تقوم بصعود سلم المتحف 20 مرة حتى \”تخس\”.
هذا كان تعليق الوزير المسئول عن الثقافة في وطننا السعيد على شكوى من موظفة في أحد القطاعات المهمة بوزارته.. وهو الأمر الذي لا أرى تعليقا عليه إلا أن اقترح عليه نفس الأمر: أن يطلع وينزل السلم 20 مرة ليس على سبيل التخسيس وإنما على سبيل الحصول على فرصة للتفكير 20 مرة قبل أن يتكلم، خصوصا أن معاليه قد برر المصيبة التي قالها بأنه \”أراد أن يلطف الجو\”، مما أعطانا فكرة إضافيه عن مواهبه الإدراية، فهو لا يتمتع بحس دعابة جريء وصادم يتناول به الصفات الجسدية لموظفيه فحسب، بل هو أيضا قادر على إطلاق العواصف والزعابيب اللفظية على سبيل تلطيف الجو.. والحقيقة أن فكرته عن تلطيف الجو جديرة بالتأمل حقا.
بالتأكيد فإن الحفاظ على اللياقة البدنية لهو أمر مهم، لكن الاهتمام باللياقة الذوقية أهم! وعلى أية حال فلو أن السيد وزير الثقافة لا يجد نفسه في مجال العمل الثقافي ويشعر بأن العمل الصحي والرياضي يناديانه، فالوقت لم يتأخر بعد ليغير مجال عمله، وهو باسم الله ما شاء الله مازال شابا والانتقال لمجال عمل آخر بالتأكيد لن يضره.
إذن فرد الوزير على الأصوات المطالبة بإلغاء وزارته، والمشككين في جدارته بمنصبه، تلخص في التخسيس.. وأسلوب تمثيل الوزير لأخلاق الأزهريين تلخص في التخسيس.. وتعامله مع مشكلات الثقافة والمتاحف في مصر تلخص في التخسيس.. بالمناسبة، أنا لا أقع هنا في خطأ اختصار الوزير عبدالواحد النبوي في تلك الواقعة، لكن لدينا مثل شعبي يقول \”الغجرية سيدة جاراتها\”، أي أن التصرفات والمواقف الفجة من المرء عادة ما تكون الأكثر ظهورا ووضوحا عند ذكر سيرته، إلا إذا استطاع أن يغلب عليها إنجازات وأعمال مبهرة بما يكفي للتغطية عليها، لكن العاقل من يحرص على أن تسبق إنجازاته سقطاته حتى يجد ما يشفع له- وليس ما يبرر- عند وقوعه في الخطأ.
العاقل أيضا هو من إذا أخطأ أقر بخطأه واعتذر.. ففي أي دولة تحترم نفسها حين يخطيء المسئول، فإنه يطل على الناس ليقول بكل شجاعة \”لقد أسأت التصرف، وأنا اعتذر واتعهد عدم تكرار هذا الخطأ\”، فهل يرى الوزير أن في هذا ما ينتقص منه؟ لو أنه يرى ذلك فهذه كارثة، ولو أنه لا يرى فيما صدر عنه في حق الموظفة خطئا فهذه مصيبة.. وأن تصدر مثل هذه المراوغة ومثل هذا التبرير من شخص يفترض أنه مسئول له من الخلفية الثقافية والعلمية والتنشئة في مؤسسة عريقة كالأزهر الشريف، فهذه هي الطامة الكبرى! ولو وضعنا جانبنا كل الصفات الوزارية والعلمية والثقافية والأزهرية جانبا، أفليس مما نتعلم صغارا خلال أولى مراحل التربية أن الاعتذار عن الخطأ من شيم الرجال؟ ما المشكلة إذن في أن يتقدم الوزير باعتذار لائق للموظفة بدون مراوغات أو تبريرات غير مبلوعة؟
عن نفسي فإنني لو كنت في مكان معالي وزير الثقافة فإنني كنت لأضع نصب عيناي منذ اللحظة الأولى لتولي منصبي كل الاعتراضات والرفض لوجود وزارتي ولوجودي على كرسيها، ولحرصت -إن سمحتم لي بالتعبير-أن \”أختشي\” وأراقب كل تصرف وكل شاردة وواردة تصدر عني حتى لا يصدر عني تصرف يؤكد أقوال الرافضين لي والقائلين بعدم جدارتي بمنصبي.. طبعا مثل هذا الحذر متوقع بشكل أكبر من وزير يعلم أنه يستمد جدارته بمنصبه من رضا الوسط الثقافي عنه، وما هو معروف من كفاءته، فيحرص أن يحافظ على صورته الجيدة في أنظار الناس، أما من يعلم أن الفضل الوحيد في توليه كرسي الوزارة يرجع للاعتبارات السياسية العليا وبعض قوانين الصدفة فهو بالتأكيد لن يحرص على الحفاظ على أية صورة، وسيتصرف ويتعامل بفوقية وترفع عن أن يزن القول قبل التفوه به والاعتذار إن كان مطلوبا.
بالمناسبة.. هل ذكرت لكم أن ثمة أقوال منسوبة لمديرة المتحف أن الموظفة المذكورة ستحال للتحقيق بسبب صينية بطاطس أحضرتها للعمل؟ السؤال الآن: أيهما أسبق- كما يقول المثال الفلسفي الشهير- البيضة أم الدجاجة؟ بشكل أوضح: أي من الأمرين كشف الآخر، تصريح الوزير-البيضة- أن الموظفة \”محتاجة تخس\”، أم اكتشاف المديرة- الدجاجة- أن الموظفة تحضر صواني البطاطس إلى مقر العمل؟ أرجو ألا يكون هذا الخبر صحيحا، وإلا فإنني سأجدني مضطرا لمطالبة أصحاب القرار بأن يضيفوا لبوابات الكشف عن الأسلحة على أبواب المنشئات الحكومية كلابا بوليسية متخصصة في الكشف عن صواني وطواجن الطعام… نحن نعيش في عالم سمسم والله!
خلاصة القول.. على معالي الوزير -وعلى كل وزير ومسئول- إذن أن يختار لنفسه، إما أن ينضم لمن جاءوا إلى كراسي الوزراء والمسئولية ورحلوا في سلام لا لهم ولا عليهم، أو من تركوا وراءهم إنجازات وأعمال نتذكرهم بها بالخير، أو أن ينضم لنفس المجموعة المنتمي لها وزير \”تعالي وأنا أقول لك فين\” ومحافظ الإشارات البذيئة بالأصابع وغيرهما ممن انضموا لهذه القائمة المشينة.. وتلك القائمة بالذات بها دائما مكانا وتسع من الأحبة – بكسر الحاء وتشديد الباء- آلافا!