وليد فكري يكتب: لكم دينكم ولي دين (5)

سؤال من فضلك: ماذا تعرف عن طوائف ومذاهب وفرق المسلمين؟

وأعني بـ\”المسلمين\” كل من يقول \”لا إله إلا الله.. محمد رسول الله\” ويتوجه إلى الكعبة الشريفة كقبلة للصلاة، بغض النظر عن تصنيف بعضهم بعضا.

للأسف الشديد أن السواد الأعظم من المسلمين لا يعرف عن طوائف المسلمين سوى أنها تنقسم لسنة وشيعة، وأن للسنة أربعة مذاهب هي المالكية والشافعية والحنفية والحنبلية، بينما أغلب هؤلاء لا يعرفون شيئا يذكر عن تاريخ تلك المذاهب والفرق.

ومع ذلك، نجد حالة من التعصب بين كل هؤلاء، ظاهره الانحياز للمذهب المعتنق وحقيقته تعصب لـ\”الأنا\”ضد \”الآخر\”، أنت ترفض الآخر فقط لأنه هو ولأنك أنت!

لي أكثر من تجربة في محاورة هؤلاء المتعصبون، وكل مرة كنت حين اختبر مدى معرفتهم بذلك الآخر الذي يبغضونه أجد أمامي خواء معرفيا رهيبا وجهلا مطبقا بأبسط المعلومات عن الدين الذي يعتنقه مئات الملايين في العالم ويصلون كلهم لنفس قبلته.

نحن نتحدث عن دين لم ينته عهد آبائه المؤسسين -الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون رضي الله عنهم- إلا وقد انقسم أتباعه مذهبيا إلى سنة وشيعة وخوارج، وانقسم أهل تلك الفرق بدورهم عبر القرون التالية إلى عشرات الفرق والتوجهات التي تمخضت بدورها إلى فرق وجماعات أخرى فرعية.. وهكذا.. فيم إذن زعم المتعصبون من أهل كل فرقة أنهم ملاك الحقيقة المطلقة والممسكون بنبراس الحق؟

ألا يقتضي صدق الإيمان بالمذهب وصحة الاعتقاد في الطريقة أن يتعرف صاحبهما على أصول وتاريخ مذهبه والمذاهب الأخرى ليتخير منها ما يطمئن له قلبه؟ كيف يمكن إذن لإنسان أن يقول بصدق إيمانه بمذهب لم يقرأ ما يكفي عنه، وكيف يرفض مذاهب يجهل كل شيء عنها، ولا يعرف عن أصولها وتطورها ومبادئها إلا قشورا وصورا نمطية وقوالب جاهزة حشا البعض عقله بها؟

انظر حولك ترى تفاصيل الحال المؤسف: سنة يدينون مجمل الشيعة بأمور لا تنطبق إلا على فئة واحدة منهم، وشيعة يتهمون السنة بأشياء لا تصدق إلا على قلة لا تحسب، وبين أولئك وهؤلاء يضيع العلم والمنطق والعقل كأيتام على موائد اللئام.

وإذا دعوت متعصبا للقراءة والمعرفة وجدت نفسك إما أمام إنسان عنيد كالحمار -أو أشد عنادا- يعتقد أنه قد اكتفى من العلم بما يقيم أود إيمانه -تعصبه لو شئت الدقة- أو إنسان خائف من المعرفة، يتعامل مع دعوتك إياه للقراءة والاستزادة من العلم كأنها غواية أو فخ يقوده للضلال.

مع أن المثل يقول \”عرفت فلانا.. هل عاشرته؟ لا ؟إذن لم تعرفه!\”، فيا هؤلاء.. هل عرفتم دينكم؟ فهل عاشرتموه؟ وأعني بـ\”عاشرتموه\”  أن \”هل قرأتم عنه وتعمقتم فيه؟\” لا؟ إذن لم تعرفوه!

سأقص عليكم قصة:

بين الصحابة الكرام كان رجل عظيم اسمه سلمان الفارسي -سابق الفرس إلى الإسلام- كان سلمان ابنا لأحد أعيان قرية من مدينة أصبهان الفارسية، وكان من فرط تعبده على الديانة الزرادشتية يلقب بـ\”قاطن النار\” -نسبة لنار الفرس المقدسة- فتصادف يوما أن مر بقوم مسيحيين يتعبدون، فأثارت عبادتهم فضوله للتعرف إلى دينهم، فبدأ في التردد عليهم، مما أقلق أباه إلى حد أنه ألزم ابنه الإقامة الجبرية، لكن الابن لم يتوقف عند هذا الحد، فهرب إلى بعض مدن الشام وعاش في دير مع بعض الرهبان وقد مال للمسيحية.

وفي الدير، فوجيء سلمان بأن كبير الدير يختلس من أموال النذور والصدقات ويكنزها، فلم يجعله هذا يدين كل أهل المسيحية ويعمم الحكم عليهم بالفساد.

وعندما مات كبير الدير وحل محله رجل صالح، أسر له سلمان بشوقه لمعرفة حقيقة الإله، فأخبره الراهب أنه يرى في بعض كتبه أن رجلا سيخرج في بلاد العرب ويهاجر لأرض ذات نخيل وحجارة سوداء -وهي يثرب/المدينة- فإن أراد سلمان أن يقترب من الحقيقة، فعليه أن يبحث عن هذا الأرض لعله يلتقي هذا الرجل.

ويهاجر سلمان، وفي الطريق يقع أسيرا لبعض قطاع الطرق الذين يبيعونه لرجل يهودي يبيعه بدوره لأحد أقاربه الذي يتخذه عبدا، ويرحل سلمان مع سيده الجديد إلى بلده التي يشاء القدر أن تكون يثرب.

ولا يسمح سلمان للعبودية أن تنسيه غرضه وهدفه.. فيستمر في الانتظار والبحث، ويعرف يوما أن رجلا خرج بين أهل مكة وقام يدعوهم لعبادة الله وحده ونبذ الأوثان، وتمر الأيام ويهاجر هذا النبي إلى المدينة، فيسرع سلمان إلى البحث عنه ليتأكد من العلامات الثلاث التي أخبره بها الراهب: رجل يأكل الهدية، ولا يأكل الصدقة، وبين كتفيه علامة هي خاتم النبوة.  فيذهب سلمان يوما إلى النبي وأصحابه ببعض التمر ويقول لهم: \”أنتم قوم جئتمونا وأنتم في حاجة، فهذه صدقة، \”فيقول النبي لأصحابه: \”كلوا\” ولا يأكل هو.. ثم يعود سلمان بتمر ويقول لهم: \”هذه هدية\”، فيأكل منها النبي، ثم يراقب سلمان النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يحاول أن يرى ما بين كتفيه، فيفهم النبي أنه يريد التوثق من العلامة، فيطرح رداءه عن أعلى ظهره فتظهر العلامة.. وينحني عليها سلمان يقبلها، ويقص قصته على الرسول الذي يأمره أن يكاتب سيده (أي أن يتفق معه على مال يكسبه له ليعتقه، وكان نظاما معروفا في الرق)، فيفعل ويتحرر.. ويكرمه الرسول صلى الله عليه وسلم حين يقول المهاجرون \”سلمان منا\”، ويقول الأنصار \”بل سلمان منا\”، فيقول عليه الصلاة والسلام: \”سلمان منا آل البيت\”.

هذا نموذج رائع لرجل تجشم عناء فراق الأهل والسفر وتحمل العبودية وبذل التأني وطلب العلم والصبر على المراقبة ليصل لحقيقة ما يؤمن به وينحاز إليه، وقد كان من الممكن أن يرضى بإيمانه السابق وينعم بحياة أبناء الأعيان أو أن يرضى بدينه التالي وعزلة الدير.. لكنه بذل الجهد والوقت والصبر ليستحق مكانته في التاريخ.

ونحن الآن نرى من يولد على مذهب أو يلقنه شيخا ما بضعة كلمات، فيعتبر أنه قد نال اليقين من أطرافه جميعا، وأنه لا يحتاج للقراءة والعلم، ثم يتشدق بكل جرأة بكلام عن شوقه لأن يكون أحد بناة الحضارة الإسلامية من جديد.. بحق الله؟! عن أية حضارة نتحدث ونحن بيننا من يختصر \”الحضارة\” في حماس أعمى وسيف مرفوع وحنجرة يشقها الهتاف الحماسي؟!!!  كلا والله.. فليس بمثل هؤلاء تقوم الحضارات، بل بمثل سلمان عليه وعلى أمثاله رضوان الله وسلامه.

وما النتيجة؟ قطعان من الثيران الهائجة المتشنجة تتطاحن وتتصارع ويعتبر كل منها أنه صاحب المذهب الحق دون قراءة وتفكير وتدبر.. يتصايحون بالسعي لتنفيذ أوامر الله تعالى دون أن يفكر أحدهم في أن ثمة حكمة ما في أن يكون الأمر الأول المنزل من فوق سبع سماوات هو \”اقرأ\”…

(يتبع)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top