لا كهنوت في الإسلام
جميل.. هذا مفهوم، ومعروف أن تعبير \”رجال الدين\” حين يُطلَق على المشتغلين بالفتوى والعلوم الدينية وإمامة المساجد والخطابة فإنه لا يحمل ذات المعنى الذي يحمله عند بعض الأديان التي ترتبط فيها العبادات والمراسم الشخصية بضرورة وجود \”رجل دين\” يؤديها وإلا عُدَت باطلة.
لماذا إذن هذا الاستنكار لممارسة المسلم حرية التفكير والبحث واتخاذ القرار فيما يتعلق بدينه من أحكام تعبدية أو تخص المعاملات أو غيرها من مكونات الدين الإسلامي؟ لاحظ أنني أتحدث عن ممارستها فيما يتعلق بـ\”نفسه\” وليس الاشتغال بالفتوى بغير علم أو بعلم سطحي.. ما المشكلة في ذلك؟
ما المشكلة في أن يبحث أحدنا عن فتوى في أمر ما فيحال لنصوص قرآنية أو كتب فقهية أو آراء قديمة ومعاصرة فيتأملها ويفكر فيها ثم يتخيّر الأيسر والأصلح لنفسه؟
هل يخشى \”البعض\” أن يأخذ بالأيسر؟
بمناسبة هذا الهاجس عند البعض سالف الذكر.. مما يستفزني جدا أن أكون قد بحثت عن فتوى في شأنٍ ما فأجد عدة فتاوى -بأسانيدها- وكلها أو معظمها لها نفس القوة من حيث الأسانيد والأدلة.. فأختار أيسرها، فأجد من يقول لي وهو يبتسم بخبث وينظر لي نظرة \”كشفتك!\”.. \”هل أخذت بها لأنها أقنعتك أم لأنها قد وافقت ما تريد؟\”.
ما المشكلة في أن توافق الفتوى ما أريد؟ أين الخطأ في أن توافق فتوى ما يستريح له قلبي فآخذ بها؟ هل هذا عيب؟ هل هناك نص قاطع يقول بأن عليّ أن أختار أشد الفتاوى وأقساها وأبعدها عن راحتي النفسي؟
وعودة لحرية بحث المسلم في دينه، اعترف أن لدينا مشكلة حقيقية في هذا الشأن، فقليل من المسلمين -على الأقل في مجتمعنا المصري- الذين يهتمون بالقراءة والبحث والاستزادة من العلم الديني، وعوضا عن ذلك فإنهم يعتمدون على قاعدة \”أصلي سألت شيخ\”.. حسنا.. ما تخصص هذا الشيخ؟ هل تخصصه الفتوى؟ العقائد؟ الحديث؟ التفسير؟ لـ\”الشيوخ\” تخصصات كثيرة فعلى أي أساس اعتمدت على هذا \”الشيخ\” ليفتيك؟
ولكن ما السبب في هذا الإحجام عن البحث في الدين؟ اعترف أن ضعف مستوى التعليم، وقلة عدد من يقرأون في المجتمع من الأسباب الرئيسية، ولكن ثمة سبب هام هو \”تحويل البعض الدين لكهنوت محرم إلا عليهم\” وأعني بـ\”البعض\” السواد الأعظم من التيار الديني.
فعلى سبيل المثال، تجدهم يتقبلون ببساطة أن يتحدث أحدهم في الدين -وإن لم يكن متخصصا أو حتى قارئا- فيقول ويعيد ويزيد ويصول ويجول، وهم يسمعون له، ويصغون ويعتبرون أنه أهلا للحديث باعتباره \”منهم\”، بينما لو وقع من غيرهم أن يستشهد بآية أو حديث أو أن يتحدث عن فتوى أو بعض الأحكام لاستنكروا منه ذلك، بل وربما أشبعوه سخرية واستهزاء.. يا عزيزي إنهم يندهشون إذا تصادف ورأوا أحدنا يصلّي! (وهذا عن خبرة.. أنا كشاب ليبرالي يحدث معي هذا أحيانا) وكأنهم قد احتكروا الدين بموجب حق إلهي!
وإن اعترض معترض قالوا له بجفاء \”من أنت لتنتقد الشيخ؟ من أنت لتعترض على الشيخ!\” هم إذن لم يحرموا الإنسان حق فهم دينه بالحوار والنقاش، بل وخالفوا قاعدة \”الحق لا يُعرَف بالرجال\” فربطوا الحق بـ\”الشيخ\” أيا من كان.. أو صعبوا عليك الأمر، فقالوا لك إنك لتعترض -مجرد الاعتراض- أو لتناقش هذه المسألة أو تلك -من أبسط المسائل الحياتية- فإن عليك أن تدرس عدد كذا من العلوم لمدة كذا من السنين.. في خلط مدلّس بين متطلبات \”الاشتغال بهذا الفرع من العلوم الدينية\” و\”مجرد فهم ومناقشة هذا الحكم أو ذاك لصالح مسألة شخصية\”!
وإن كان \”حصارهم\” للدين لا يثني المثقف عن القراءة والبحث وإعمال العقل، فإن رد فعل الإنسان بسيط الثقافة لا يكون كذلك في المعتاد الشائع، بالعكس، فإنه ينكسر ويتأثر بالهيبة الزائفة التي يضفيها هؤلاء على أنفسهم خاصة لو كان بعضهم يجيد الحديث بالكلام الملغّز واللغة المتقعرة مما يشعر مثل هذا الإنسان البسيط أن \”الموضوع كبير عليّ\” فيسهل أن ينقاد لهم.. خاصة لو لعبوا على وتر إحساسه بالذنب سواء لذنوب ارتكبها أو أمور قصّر فيها. وإن حاول أن يكون \”منهم\” فهو غالبا مجرد متحمس جاهل، هذا إن لم يستطع أن يثبت نفسه في \”الكار\” ليصبح بدوره \”شيخا\” كل مؤهلاته لحية كثة وكلام ثقيل.
من أين حسبتم إذن أن التطرف والتشدد والتعصب يأتون؟
أذكر أنني مرة شهدت موقفا مؤلما لاشتباك عنيف بين بعض المتطرفين ممن ينسبون أنفسهم للتيار السلفي وبعض الشباب المدني.. بعد الاشتباك تصادف أن كنت أتحدث لرجل ممن كانوا في صفوف المتطرفين، فاعتذر إليّ قائلا \”أنا رجل قضيت سنوات في السجن لأني كنت أمارس البلطجة، وعندما خرجت من السجن قررت أن أتوب فلازمت المسجد أصلي وأقرأ القرآن.. وذات يوم وجدت الشيخ يسألني: ألا تريد أن تفعل ما يرضي الله؟ قلت له: يا ليت، فقال: إذن تعال معي.. وجرى ما جرى! لم أكن أعرف من أقاتل ولماذا!\”
هذا الرجل هو عينة لما يحدث عندما تعطي الإنسان تدينا وحماسا بلا علم.. أو أن تعطيه العلم حفظا بلا فهم.
لماذا؟
لأن العلم الديني قد تحول إلى كهنوت. ………………..
ولا يسيئن أحد فهم كلامي بأني أقول بعدم أهمية التخصص والدراسات الدينية.. بالعكس، أنا أطالب بتوسيع نطاقها، وبنشر الثقافة الدينية -بغض النظر عن مدى التديُن أو الالتزام الديني- بحيث يفهم المسلم دينه ويجيد التعامل مع طرق البحث والمقارنة والمفاضلة والتفكير العلمي، وبالتالي يصبح أكثر تحصينا ضد التعصب والتطرف.. وضد التلاعُب والتدجين من كل من هب ودب.. وحتى لا يصبح مطية لكل من يلقبه الناس بـ\”الشيخ\” فقط لأنه ملتحي.
إن تحريف الدين ليس مجرد اختلاق لأحاديث أو عبث بآيات أو دس لمواقف ونسبها للرسول -عليه الصلاة والسلام- أو الصحابة -رضي الله عنهم- بل هو كذلك بأن يوضع فيه ما ليس فيه من كهنوت واحتكار لمجرد أن يتدبر الإنسان أمر دينه.. حق منحه لنا الله، فبأي حق يغتصبونه؟!
(يتبع)
