وليد فكري يكتب: لكم دينكم ولي دين (19)

كنت أنوي أن أستكمل حديثي بشأن ظاهرة استسهال كثير من أهل التيار الديني لقلة الأدب في تصديهم للمخالفين لهم.. لكن رمضان جاء -كل عام وأنتم بخير- وجاء معه استفزاز جديد، يتمثل في ظاهرة يمكنني تسميتها بـ\”مفتشي الالتزام بالصيام\”، أي أولئك الذين يجعلون مهمتهم \”المقدسة\” خلال الشهر الفضيل هي مراقبة الناس نهارا لـ\”اصطياد\” المجاهرين منهم بالإفطار واستهدافهم، سواء بالنظرات المستهجنة، أو \”رمي\” الكلام الجارح، أو ربما الاستيقاف وتوجيه اللوم، وصولا للتشاجر.

للأسف فإنني قد صادفت كثيرا ممن يؤيدون بعض أو كل هذه الممارسات، من منطلق \”الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر\” -من وجهة نظرهم- باعتبار أن المجاهر بالإفطار هو وغد رقيع منحل لا يراعي قدسية الشهر الكريم.

مبدئيا.. فإن الصيام -والعبادات بشكل عام- هي من أوجه العلاقة الخاصة بين الإله وعبده، فإذا كان التدخل في العلاقات الخاصة -كالأسرية مثلا- من أوجه سوء الأدب، فما بالنا بالعلاقة بين الله تعالى وعباده؟ وما بالنا بعبادة وصفها رب العزة بأنها \”لي\” أي له عز وجل؟

إن كان مبرر هؤلاء المتنطعون هو أن الجهر بالإفطار يعتبر جرح للشعور العام، فلماذا لا نرى عنتريته وغضبته هذه في مواجهة الكثير من الموبقات مثل التحرش، الظلم، العنف، البلطجة، وغيرها من الممارسات الضارة بعموم المجتمع، أم لعلها لا تمثل عنده جرحا للشعور العام؟

وإن كان مبررهم هو أن منظر شخص مفطر يؤذي المسلم الصائم، ويجعل صيامه أكثر مشقة، فماذا عن ملايين المسلمين الصائمين في بلاد غير إسلامية، يأكل فيها الناس ويشربون ويدخنون على الملأ بكل بساطة؟

لن أتحدث بالطبع بمنطق الحريات وحق كل إنسان في احترام خصوصية عباداته، فهذا مما لا يفهم هؤلاء القوم ولا يقرون، بل إن منهم من يرون الحرية بدعة ورجس من عمل الشيطان!

دعونا نساير هؤلاء القوم، حسنا.. سنوافقكم في أن من واجب المسلم الغيور على دينه أن يراقب \”احترام المقدسات\” في مجتمعه.. أنت الآن -عزيزي المسلم الغيور على دينه- تسير في الشارع في نهار رمضان.. وقد صادفت بعض المفطرين.. كيف تستطيع تمييز غير المسلم منهم من المسلم؟ وكيف تستطيع بعد ذلك أن تميز من بين المسلمين المفطرين من لديه عذر -كالمريض والمسافر والحائض- من أولئك الذين ليس لديهم عذرا دينيا؟

هل ستراقبهم؟ مهلا.. لا تستطيع.. ألم يقل الله تعالى \”ولا تجسسوا\”؟ هذه الطريقة مرفوضة إذن.

هل ستطلب منهم أن يبرز كل منهم سبب إفطاره للناس حتى لا يساء الظن به؟ بالله عليك.. هل تمزح؟ هل تقترح مثلا أن يتفق الناس على شارة يرتديها المريض وعلامة يضعها من على سفر، وشارة أخرى تضعها الحائض؟ كن منطقيا يا عزيزي.

هل تطلب الحق في استيقاف كل منهم وسؤاله عن عذره؟ هل تعلم كم أنه من المؤلم لبعض المرضى أن يتحدثوا عن أمراضهم المانعة عن الصوم؟ دعك من المسافر، ماذا عن الحائض؟ هل تتوقع أن تبتسم لك قائلة: \”آسفة.. عندي الدورة\”؟! هل اطمئنانك على احترام الصيام، يبرر إحراجك الآخرين وجرحهم؟

هل تقترح ألا يجاهروا بالإفطار أصلا؟ أتدري كم أن هذا شاق عسير، بالذات على المرضى الملتزمين بنظام غذائي خاص أو الملتزمين بشرب السوائل.. خاصة لو كانوا من أصحاب المشاغل والأعمال التي تتطلب خروجهم للأماكن العامة؟

هل تتوقع من المضطر للأكل والشرب أن يسرع للاختباء في مدخل مبنى مهجور أو سطح بناية نائية كالأبطال الخارقين حين يبدلون ملابسهم؟

النتيجة إذن: أنت لا تستطيع أن تميز المفطر تقصيرا عن غيره.. فهل ستدين الجميع؟ (لو فرضنا أصلا أن لك حق الإدانة)

سأفاجئك، فديننا لا يسمح لك بذلك، لأن الأصل في الإنسان البراءة، والبينة على من ادعى، أي أنك أنت الملزم بإقامة البينة على صحة ادعائك أن هذا الشخص أو ذاك مفطر تقصيرا، ومجاهر بالإفطار عن قصد لجرح شعورك الديني، وليس هو الملزم بإقامة البينة على براءته من ذلك، ولو نزلت للشارع، فوجدت كل من به مفطرين، فإنك -التزاما بآداب دينك- لا تملك إلا أن تزجر نفسك عن إساءة الظن بهم جميعا!

أم لعلك تتحدث من منطلق إنساني بحت، أن يحترم غير الصائم مشاعر الصائمين بغض النظر عن الدين؟!

قل لي إذن بالله عليك، متى طالبت المسلمين بالامتناع عن أكل اللحوم والدجاج ومنتجات الألبان علنا في أيام صيام المسيحيين؟

الخلاصة: ستجد نفسك إذن مضطرا لترك كل إنسان وشأنه فيما يتعلق بعباداته، ولا تبتئس هكذا.. ألا تعلم أن من حسن إيمان المرء تركه ما لا يعنيه؟

(يتبع)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top