منذ فترة قصيرة مررتُ بتجربة مزعجة، فقد كتبت على صفحتي الشخصية في موقع فيسبوك أنتقد وأهاجم الدولة العثمانية منذ عهد سليم الأول وحتى نهايتها.. من البديهي أن كلام لاقى اتفاقا من البعض واختلافا من البعض الآخر.. لا مشكلة في ذلك، ولكن المشكلة أن قطاع \”المختلفين\” جاء كلاما أغلب ما فيه ديني عاطفي لا تاريخيًا علميًا، فقلة منهم استشهدت بالمراجع والكتب لتناقشني، بينما تراوحت تعليقات الأغلبية بين \”زجر\” لي عن إساءة الأدب في تناول دولة \”خلفاء المسلمين\”، أو سبابًا وتسفيهًا تضمن قول بعضهم \”قوله مثل بوله\” (آه والله)، بل وبلغ الأمر حد قذف أمي مباشرة في عرضها.. لا لم يقل لي \”يا ابن كذا\”، بل قال صراحة \”لا بد أن أمك فعلت كذا وكذا\”! جدير بالذكر أنه قد بدأ حديثه معي بنبرة قال الله وقال الرسول!
دعونا هنا من التساؤل عن سبب انتشار إساءة الأدب في الاختلاف، ودعونا من التعليق على مخالفة قاعدة هامة في النقاش هي \”انقد الكلام وليس شخص قائله\”.
ولنركز هنا على السؤال الأهم: ما علاقة تاريخ الدول والملوك والحُكّام بالدين؟
الإجابة بسيطة: منذ قام البعض بـ\”أدلجة\” التاريخ وتديينه وتحويله إلى خطب ودروس وليس علمًا محترمًا له ضوابط وقواعد كأي من العلوم الإنسانية.
هؤلاء هم الذين يحمل أغلبهم صفة مائعة، فلا هو شيخ ولا هو \”أستاذ/دكتور..إلخ\”، ويتناول الوقائع التاريخية من منطلق ديني بحت مفاده أن المسلمين هم مركز العالم والتاريخ والحياة، وأن كل وظيفة باقي البشر هي التآمر عليهم ومحاربتهم لا لشيء إلا لأنهم يكرهون الإسلام لمجرد كره الإسلام.. بسم الله ما شاء الله! ونِعمَ العلم!
يتناولون التاريخ الإسلامي العربي من زاوية واحدة حيث المسلم دائمًا بطل شجاع قوي ملتزم دينيًا شديد الذكاء والبلاغة، بينما غير المسلم خائن جبان متآمر وغد رقيع منحل ضعيف ذليل يفحمه المسلم بالقول فيرتج عليه ويصمت من فرط الانبهار، هذا إن لم تغرورق عيناه بالدموع وينطق بالشهادتين في مشهد يذكرنا بفيلم فجر الإسلام!
هذا عن \”جموع المسلمين\”، أما عن قادتهم فدائمًا القائد \”سليم العقيدة، متدين، قوي، شجاع، عادل.. من الآخر هو مخلوق كامل من كل ناحية بلا نقطة ضعف واحدة! وهو أمر لم يتأتى حتى لأولي العزم من الرسل، لا تخرج قبل أن تقول سبحان الله!
ماذا عن \”الآخر\” إنه دائمًا ذلك المتآمر الشرير الذي لا يبني مواقفه منك على أية عوامل اقتصادية أو سياسية، بل على شيء واحد فقط \”كراهيته للإسلام وحقده على أهله\”.. لماذا يكره الإسلام؟ الله أعلم.. يبدو أن الله خلقه هكذا.. ولماذا يحقد على أهله؟ الله أعلم أيضًا.. حسنًا.. نحن أمام حالة جديدة من البارانويا الجماعية .. باختصار \”نحن بخير فقط لأننا نحن، والآخر ليس بخير فقط لأنه آخر\”.. لحظة.. هذا المنطق يذكرني بقوم.. ترى من هم؟ الذين يعتبرون أنفسهم شعب الله المختار المضطهد من العالم.. ما علينا.
وعودة لموضوع \”القادة/الرموز\” هذا، فباسم تقديم \”الرمز الإسلامي\” لجموع المسلمين -من منطلق تحميسهم وبث الحمية فيهم على حد تبرير هؤلاء العباقرة الذين يفعلون ذلك- فإن الشخصية التاريخية تُقَدَّم من جانب واحد منها، هو ذلك الذي يخدم الخطاب، بينما يعتم على باقي الجوانب.
بالتالي فإن أي شخص تاريخي يحمل صفة \”حاكم مسلم/ خليفة/سلطان المسلمين..إلخ\” هو شخص محصن من النقد لأنه ليس مجرد أحد ممثلي عنصر من عناصر التاريخ -عنصر الإنسان- بل هو جزء من الإيمان بـ\”التفوق الإسلامي\”. وانتقادك له أو لدولته هو حقد على هذا التفوق وافتراء على تاريخ \”أعظم أمة\”.
بالمناسبة: ما الذي يجعل منا -معشر المسلمين- أعظم أمة؟ لا أحد يكلف خاطره للإجابة عن هذا السؤال، فماذا تنتظر من شخص يؤمن بأنك لو كنت أكثر الناس شرًا في العالم وأقلهم خيرًا، فإن مجرد اعتناقك الإسلام يجعل مصيرك النهائي هو الجنة، ولو كنت أكثر الناس خيرا للعالم وأقلهم شرًا، فإن مجرد كونك غير مسلم يعني أن مصيرك النهائي هو جهنم وبئس المصير.. شخص يؤمن بذلك كيف تتوقع منه أن يكون لديه من العقل ما يكفي لفهم أمور مثل \”عوامل النهوض والانحطاط والسقوط\” و\”انتقال الأمم من مكانة إلى مكانة أعلى أو أدنى عبر التاريخ؟ هذا شخص يؤمن أنه من خير أمة فقط، لأنها كذلك.. تبًا! لماذا أشعر أنني أتحدث عن النازية أو الصهيونية، ولكن باسم مختلف؟
ما العمل مع مثل هذا الشخص؟ سأقول لك:
تعال نقم بتجربة شريرة -وستعرف معي لماذا أصفها بـ\”الشريرة\”- هات بعض الشباب المتدين المتأثر بخطاب \”البطولات الإسلامية\” إياه.. إجعله يأتنس بك ويستمع إليك وتحدث معه -واستفزه لينضم لك في الحديث- في ذم أصحاب العقائد المنحرفة الضالة -من وجهة نظره وأمثاله- مثل القائلين بخلق القرآن والمرجئة والشيعة والصوفية.
ثم بعد ذلك انتقل بمرونة لموضوع آخر هو \”مفاخر التاريخ الإسلامي\” وإذكر أمامه أسماء مثل \”الخليفة المعتصم معز الإسلام- محمود بن سبكتكين فاتح الهند – سيف الدولة الحمداني قاهر الروم – صلاح الدين الأيوبي بطل القدس – قطز وبيبرس أبطال عين جالوت\”، تحدث معه عن بطولاتهم ومآثرهم ومواقفهم بحرارة.. انظر التأثر في عينيه.. راقب نشوة النوستالجيا في وجهه.. حسنًا.. حان الآن موعد الجزء الشرير من التجربة.
أخرج له كتب \”المؤرخين الثقات\” الذين يفخر \”شيوخه\” بأنهم يعتمدون على مراجعهم في دروس \”التاريخ/الدين..أيًا يكن مسمى هذا الذي يقدمونه\”، واجعله يقرأ الحقائق الآتية:
– الخليفة المعتصم بالله هو ممن سجنوا وعذبوا الإمام أحمد بن حنبل لرفضه الاعتقاد بمبدأ \”خلق القرآن\”.
– محمود بن سبكتكين كان على مذهب المرجئة.
– سيف الدولة الحمداني كان شيعيًا.
– صلاح الدين الأيوبي كان من أوائل من أدخلوا \”دراويش الصوفية\” إلى مصر.
– قطز كان يؤمن بالنبؤات وله موقف شهير مع العراف الذي تنبأ بسلطنته.
– بيبرس كان محبًا للصوفية مقربًا لهم، وكان من أقرب أصدقائه \”الشيخ خضر\” الولي الصوفي.
(وهذا ليس بالضرورة نقد لمذاهب هؤلاء الأشخاص من قِبَل كاتب هذه السطور.. فقط أنا أريك كيف \”تأخذه بقدر عقله\”)
باختصار: قدم له الدليل العملي أنه ليس من الضروري أن ترضى عن الشخص التاريخي بنسبة 100%، ولا أن تبغضه بنفس النسبة.. ففي النهاية تبقى حقيقة أن القاريء والكاتب والمقروء عنه هم جميعًا مجرد بشر.
إضرب ضربتك ولا تثني، دعه لصدمته وشكه.. واجعل مبدأك في ذلك هو \”إن لم تستطع أن تنقل له يقينك، فإجعله يشك في يقينه واتركه لشكوكه\”.. لو كان من أهل إعمال العقل فستكون هذه الصدمة بمثابة صدمة الإفاقة من أثر دجل العابثين بعقول وأديان وتاريخ البشر.. وإن كان مجرد \”حمار يحمل أسفارًا\”، فسيعاند ويكابر ويصب غضبه عليك لأنك جرؤت ومسست بمعتقداته التي وجد شيوخه عليها عاكفين!
**********
هذا عن صنم الرموز التاريخدينية -إن سمحتم لي بالتعبير- المقدسة الذي نصبه بعض النصابين في وجدان كثير من المسلمين.
ماذا إذن عن \”شيطان الآخر\”؟
للحديث بقية.
(يتبع)