وليد فكري يكتب: لكم دينكم ولي دين (12)

ينبغي أن نعترف أن لدينا -معشر المسلمين- مشكلة حقيقية في فهم الكثير من المصطلحات الدينية أو تلك المرتبطة بالدين بشكل أو بآخر.

من أبرز تلك المصطلحات مصطلح \”الجزية\”.

فحتى الآن، وبعد أكثر من 1400 سنة من  البعثة المحمدية، يفهم البعض هذا المصطلح بالصور الآتية:

– الجزية عقاب لغير المسلمين لبقاءهم على أديانهم ورفضهم اعتناق الإسلام.

– الجزية وسيلة لإذلال غير المسلمين من خلال إجبارهم على دفعها \”عن يد وهم صاغرون\” لتحقيق مفهوم العزة لله ورسوله والمؤمنون.

– الجزية هي مقابل للسماح لغير المسلم للبقاء على دينه.

من يفكر في أن يفهم دينه حقا وروحه السمحة، سرعان ما يدرك الخطأ الفاحش في تلك المفاهيم الثلاثة، والتي للأسف يعتنقها ويتداولها كثير من المسلمين.

فأولا، فإن محمدا -صلى الله عليه وسلم- لم يبعث معاقبا للأمم، ولا مجبرا لهم على اعتناق الإسلام حتى يعاقبهم على رفض ذلك.

وثانيا، فإن الله أجل من أن يبعث رسولا بدين يسعى لإذلال غير معتنقيه، فضلا عن أن عزة المسلم ليست في التعالي على من سواه وإذلالهم،  ولا يعقل أن يأمر الله بحسن جوار المسلم لغير المسلمين وأن يأمره بإذلالهم في نفس الوقت.

وثالثا، فإن ليس من المعقول أن يأمر الله صراحة ألا إكراه في الدين، وأن يعلق ذلك بشرط دفع إتاوة مالية.

ثم إن تلك المفاهيم الثلاثة تتعارض مع طبيعة دعوة الإسلام أنها دعوة لينة ترفق بالناس وتخاطبهم بالحسنى والتبشير، لا الشدة والتنفير.

مبدئيا فإن الجزية ليست ابتكارا إسلاميا، فمن قبل الإسلام بقرون فرضتها الدول القوية على الدول الخاضعة لحمايتها -سواء تم ذلك باتفاق سلمي أو بخضوع تلك الأمم حربا.. ولم تكن مرتبطة باعتناق أهل تلك الدول دين الدولة الحامية.

كذلك فإن في التاريخ الإسلامي مواقفا تثبت خطأ افتراض ارتباط الجزية بمجرد اختلاف الدين.

فبعض المدن التي فتحت عاهدت على أن تدفع الجزية فقط في حال قيام المسلمين بمهمة حمايتها من الاعتداءات الخارجية، على أن تسقط تلك الجزية في الأعوام التي يشارك فيها غير المسلمين في الدفاع عن المدينة.. وأقر الفاروق عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ذلك.

ومدينة حمص، أعاد لها القائد أبوعبيدة بن الجراح -رضي الله عنه- الجزية، عندما اضطر للانسحاب بالجيش منها قبل إعادة فتحها نهائيا، وفسر ذلك لأهلها أنه لن يقبل الجزية طالما لم يدافع المسلمون عنها.

وقبيلة تغلب اتفقت مع عمر بن الخطاب أن تؤدي له الجزية تحت مسمى الصدقة، لأن كرامتهم أبت أن يقال إنهم يدفعون جزية للحماية، ووافق الفاروق على ذلك تطييبا لخواطرهم وتآلفا لهم.

مما سبق ندرك أن الجزية هي ببساطة \”مجرد مقابل حماية\”، يرتبط بقيام المسلمين بهذا العبء عن غير المسلمين، ويسقط لو شارك غير المسلمين بتلك المهمة.

والدليل على ذلك هو أن تلك الجزية كان يعفى منها النساء والأطفال والشيوخ والفقراء ورجال الدين والمعاقون، أي ببساطة تلك الفئات العاجزة عن القتال.. أما القادرون عليه فكانوا يؤدونها مقابل إعفائهم من العمل العسكري.

رغم ذلك نجد الآن من يستنكرون أن غير المسلمين من مواطني البلاد الإسلامية ينضمون للجيش ويشاركون في مهامه ولا يؤدون الجزية!

سبحان الله.. أليسوا بالفعل يؤدون ما هو أثمن من المال، وهو الدم والنفس والسهر على الحماية والأمن؟

هذا نموذج بسيط جدا لمفهوم خاطيء منتشر بشكل مريع بين المسلمين، وهو ليس من المفاهيم الصعبة التي تحتاج إلى متخصص لفهمها وإدراكها.

فتخيل معي -عزيزي القاريء- كم من المفاهيم المظلومة في ديننا من أهل هذا الدين، نتيجة عوامل عدة  كالتقصير في شرحها، أو تقديمها بشكل خاطيء، أو استخدام خطاب إقصائي عدواني متطرف في سياق الحديث عما يخص غير المسلمين.

(يتبع)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top