وليد فكري يكتب: في حضرة التاريخ (8)

منهم لله أولئك الذين حوّلوا قراءة التاريخ إلى ما يشبه حائط مبكى معنوي كبير، جنازة يشبعون فيها لطمً، مناحة كبيرة.. شيء من هذا القبيل.

أنا لا أتحدث هنا عن النوستالجيا التاريخية، لا، الأمر أكبر من هذا بكثير.. هو لا يقف عند مجرد الحنين للماضي، وإنما لتحويله لمادة للبكائيات والمراثي واللطميات.. صحيح أننا -وأنا نفسي أفعل ذلك- كثيرا ما نذكر بعض المواقف والأحوال التاريخية لمجرد التأمل والنظر في أين كنا وأين أصبحنا، لكن الفارق الكبير بين هذا ومجرد البكاء على الأطلال ليل نهار، هو أن الأول يفعلها على فترات متباعدة دون إفراط في \”المُحن\” التاريخي، والآخر يفعلها ولسان حاله يقول \”يا أولاد الأفاعي! كيف تعيشون وتأكلون وتشربون وتضحكون بدلا من أن تبكوا ليل نهار على المجد البائد؟!\”

المفترض أن يكون الغرض الأساسي من قراءة التاريخ هو تحليل أحداثه وتتبعها للوقوف على علاقة السببية بين كل \”حالة\” وتلك التي تليها، ثم بعد ذلك معرفة مسببات الأوضاع المعاصرة وكيفية التفاعل معها للتحكم -قدر الممكن- في المستقبل.. أما القراءة بغرض مصمصة الشفاه وإطلاق زفرات الحسرة، فهي أبعد ما تكون عن مستهدف قاريء التاريخ والباحث فيه.

……….

وكالعادة، تحمل قراءة التاريخ -من الناحية الدينية- نصيب الأسد من المسئولية عن انتشار أسلوب \”القراءة البكائية للتاريخ\”، خاصة لو تحدثنا عن الدولة العربية الإسلامية في طور الارتقاء والقوة، وبالذات لو كنا نتناول موضوع \”الأندلس\”.. أحيانا أشعر أن بعض من يتناولون هذا الموضوع يصلون لمرحلة \”الأورجازم\” مع تصاعد مستوى بكائهم وعويلهم المعنوي على ما ضاع من أمجاد وعظمة وشموخ.. هم لا يتناولون التاريخ الأندلسي من منطلق المعرفة والتأمل والتحليل والتفسير، وإنما من منطلق إثارة مشاعر الحسرة والحزن وممارسة جلد الذات.

وبعد الانتهاء من تلك الطقوس التي تجمع بين السادية والماسوشية في آن واحد تبقى بعض الأسئلة: ما هي الفائدة التي تحققت؟ ما الذي أضيف للمُلقي والمتلقي؟ ما الذي أضيف لقراءة التاريخ؟ الإجابة: صفر كبير.. كل ما حدث كان تحقيق إنجاز أن يشهد التاريخ لحظة التقاء مهنة الكاتب التاريخي مع مهنة المعددة في نقطة واحدة!

……….

وقد يخطيء البعض فهم هذا النوع من قراءة التاريخ فيحسب أنه دعوة للاعتبار والتأمل في أخطاء الماضي، وإثارة للحماس لإعادة إحيائها، والواقع أن القراءة الناضجة للتاريخ عليها أن تكون موضوعية وخالية من المشاعر والانفعالات، فحين نتناول -مثلا- أسباب صعود وسقوط الدول نتحدث بالطريقة الآتية: أسباب الصعود: 1.. 2.. 3.. أسباب السقوط:1…2….3 .. مع تحليل كل سبب واستعراضه وتقليبه وتأمله من كل الزوايا، بل والبحث عن أسباب جديدة وأساليب حديثة للتأمل والاستنتاج وربط الماضي بالحاضر.. هكذا تكون القراءة الناضجة للتاريخ.

بل والكارثة الأكبر عندما يقام الصوان وتقوم المناحة على أشياء تافهة باعتبار أنها من مظاهر \”عظمتنا السابقة\”.. من فترة كتب أحدهم عن أن أبواب المنازل في الدولة العثمانية كانت على كل منها مطرقتان.. واحدة كبيرة وأخرى صغيرة، الكبيرة صوتها ينبه من بالدار أن الطارق رجل فيفتح له رجل مثله والصغيرة صوتها ينبههم إلى أن الطارق امرأة فتفتح لها امرأة مثلها… وهذا \”الشيء\” الذي قرأته ينتهي بعبارة تخيل كاتبها يقولها بأسلوب تمثيلي درامي \”عندما كنا عظماء\”.. هناك عبقري قرر أن مطرقة باب هي إنجاز حضاري يستحق البكاء والعويل على غيابه! حسنا.. اعتقد أن حصيلة مجتمعنا الضخمة من أمثال هذا العبقري هي من أبرز أسباب تأخرنا عن إحياء أمجاد الماضي!

سؤال بسيط:  كل أمة في تاريخها أوقات للصعود والرقي وعصور للاضمحلال والانكسار، فلماذا لم أصادف مثل تلك البكائيات إلا في أمتنا الرائعة؟! هل نحن الأمة الوحيدة التي \”عندها دم\” من دون كل خلق الله؟!

كيف استطاع الغربيون واليابانيون بناء حضارتهم دون حائط مبكى معنوي يعولون وهم يضربون رؤوسهم على أحجاره؟!

الإجابة: لأنهم تعاملوا مع تاريخهم بنضج.. لم يغالوا في التفخيم ولم يبالغوا في الحسرات.. تعاملوا بشكل عملي لا يعترف سوى بالمعلومات والتحليلات المنظمة.. لم ينظروا لإعادة بناء المجد السابق بإشفاق على أنفسهم من شدة صعوبة المهمة ومشقتها، ليقرروا بعدها أن النواح والعويل أسهل وأيسر.

……….

والحديث عن البكائيات يقودنا لمنطقة أخرى.. منطقة \”البارانويا التاريخية\”.. نحن بخير وغيرنا ليس كذلك.. نحن عظماء بالفطرة والعالم يتآمر علينا.. فماذا عن تلك العقدة؟!

(يتبع)

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top