وليد فكري يكتب: في حضرة التاريخ (6)

 

التاريخ كائن متحرك.. وميزة كل حركة للتاريخ أن لها خصوصيتها وتفردها مهما تشابهت ظروف وملابسات الحركات، فإن كانت في الحياة ثوابت وضوابط عامة، لكن لا يمكن الحكم على حالة تاريخية بنفس ضوابط وقوانين غيرها.

فلماذا يحاول البعض محاسبة الحاضر بضوابط الماضي أو محاكمة الماضي بقواعد الحاضر؟

……….

منذ سنوات خرج علينا الشيخ أبوإسحاق الحويني يفسر المشكلات الاقتصادية بتوقف حركة الغزو والفتوحات، وبالتالي توقف مورد الغنائم والسبي الذي كان من الموارد الثرية خلال فترة الفتوحات والتوسعات الخارجية العربية الإسلامية.

وللأمانة فإن الشيخ قد نسب له بعد ذلك تراجعه عن هذا الكلام، وهو ما أرجوه حقا، لكن حديثه المذكور يستحق النظر.

فللأسف يوجد عدد ليس بالقليل ممن يعيشون حالة يمكن وصفها بالنوستالجيا الدينية يؤمنون بضرورة استدعاء حالة \”الفتوحات\”، ويهللون للخطاب المتحسر على انتهائها وبكائيات الإمبراطورية الإسلامية السابقة.

فتوحات وغزوات وسبي وغنائم، في عالم مختلف لم تعد تحكمه قاعدة \”إن لم تغزو غزيت\”، وإنما صارت تحكمه مواثيق وقوانين دولية واتفاقيات حسن جوار (بغض النظر عن جدية وواقعية كل ذلك من الناحية التطبيقية)، فلم تعد حدود الدول قائمة على طبول الحرب وصيحات \”الله أكبر\” و\”الله يريدها\”.. وصارت الصراعات فيه صراعات تفوق علمي، سياسي، اقتصادي، وثقافي أكثر من كونها صراعات السيف والخيول والمجانيق.. بل لم تعد الدول تسعى لأن تصبح دولا كبرى تعتمد على مساحة أراضيها بقدر ما صارت تسعى لأن تصبح دولا عظمى تعتمد على مساحة نفوذها بغض النظر عن حجمها الفعلي الذي تمثله حدودها السياسية.

هؤلاء القوم توقف بهم الزمن عند منطقة تاريخية معينة عجزوا عن تجاوزها، والأسباب لا ترتبط بمستوى تعليمي أو ثقافي، وإلا ما وجدنا بين هؤلاء أو حتى بين الأكثر تطرفا ممن انضموا للجماعات الإرهابية أطباء ومهندسين وكيميائيين وغيرهم من خريجي التعليم العالي، ولا هو مرتبط بالضرورة بالمستوى الاجتماعي أو المادي لأننا نجدهم بين أبناء مختلف الطبقات، وإنما يرتبط الأمر بالمستوى الفكري ودرجة النضج العقلي المتحكم في التعامل مع الواقع.

هل هو العجز عن مسايرة الواقع؟ هل هي حيلة دفاعية نفسية لإدراك أصحابها أنهم ينتمون لمجتمع صار ضعيفا مسحوقا أمام العمالقة المتسيدين لميادين العلم والسياسة والاقتصاد، بل والإنسانية فصنعوا من أمجاد الماضي حائط مبكاهم الخاص؟

……….

وعلى الناحية الأخرى نرى مشكلة لا تقل خطورة، فمن وقت لآخر نجد من يخرجون علينا بمقالات وتصريحات تتناول بداية تاريخ الدولة العربية الإسلامية بالإدانة لقيام الدولة الناشئة بغزو جيرانها من الفرس والروم وغيرهم، واصفين إياها بأنها دولة استعمارية استعبادية، قامت على غزو الشعوب واستعبادها ونشر مباديء الإسلام بينها بقوة السلاح.

هؤلاء أيضا انفصلوا في تناولهم للتاريخ عن قاعدة ضرورة مراعاة ظروف ومعطيات كل فترة، فنسوا أن قانون العالم وقتها كان الغزو والغزو المضاد، كما أن القاريء المدقق للتاريخ الإسلامي يدرك أن الغزوات الأولى كانت بمثابة الحروب الدفاعية التأمينية الضرورية، فغزو العراق وفارس جاء ردا على قيام كسرى بإصدار الأمر لواليه على اليمن بأسر أو قتل الرسول، وغزوات الشام جاءت ردا على قيام الوالي التابع لبيزنطة بقتل مبعوث الرسول محمد إلى الشام، وقيام القوات البيزنطية بقتل وتعذيب القبائل المسلمة القاطنة على حدود الشام مع الحجاز، وغزو مصر وقبرص وشمال أفريقيا كان في إطار حرمان بيزنطة من قواعدها ومواردها، كما أن قانون العالم وقتها لم يكن يستنكر العمليات التوسعية، وهو ما استمر خلال العصر الأموي وما بعده.. لم توجد وقتها عصبة أمم أو منظمة أمم متحدة أو مجلس للأمن العالمي.

هذا فضلا عن أن هذه السياسة التوسعية لم تكن اختراعا عربيا، فالملك الفرعوني زوسر كان أول من أقر قاعدة حماية الحدود بالتوسع خلف حدود الجيران، والإسكندر الأكبر المقدوني أقام دولته الهيللينيستية بغزو الهند وفارس والشام، واليونان والرومان والفرس والصينيون كانوا يطبقون نفس السياسة باعتبارها عرفا عالميا.. ولو قمنا بإدانة قيام أحد هذه الشعوب بغزو جيرانه، لتحتم علينا إدانة عصر بأكمله وقرونا بأكملها من حياة العالم، وهو ما يعيدنا لحالة الانفصال عن الواقع التاريخي.

هؤلاء أغفلوا أن فحص التاريخ كفحص أجسام البشر، لكل جسم حالته وظروفه التي أدت به لما هو عليه، فلا يمكن أن تشخص حالة إنسان بغير مراعاة تاريخه الطبي الخاص.

وهذه المشكلة أيضا ليست عائدة لنقص تعليم أو ثقافة، وإنما لغياب الوعي التاريخي والنضج العقلي الكافي لوضع كل حالة تاريخية في الميزان.

وعودة للتساؤلات حول سبب تلك الحالة.. هل هو العجز عن الوقوف على أسباب التخلف المجتمعي والردة الإنسانية التي يعيشها مجتمعنا مما استدعى حالة هروب من الوقوف على الأسباب الواقعية العملية، وبالتالي إسقاط المسئولية على عصور مضت وانقضت؟

……….

هل من الصعب على كلا الفريقين إدراك حقيقة أن الوضع التاريخي هو ابن زمانه ومكانه وملابسات عصره؟ إن تلك الحالة من استدعاء الأحكام الاستسهالية هو مما يمكن -بحق- اعتباره ردة للفكر الإنساني وحجرا ثقيلة تجذبنا إلى القاع وتعيقنا عن التقدم إلى الأمام.

وهي -طريقة التفكير هذه- لا تهين التاريخ فحسب، وإنما تسيء كذلك للمنهج العلمي والعقلي في تقييم الأمور.

هذا عن تقييم الماضي بقوانين الحاضر والحاضر بقوانين الماضي.

فماذا عن إهانة موروثات الماضي المكونة لمعطيات حاضرنا؟

(يتبع)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top