كنت قد تحدثت سابقا عن أدلجة التاريخ.. بعدها بيوم أو اثنين تصادَف أن كتبت على صفحتي على الفيسبووك كلاما عن الدولة العثمانية ومصائبها وبداية مشكلاتها مع دولة المماليك وما ترتب على احتلال العثمانيين لمصر والشام.. إلخ..
سبب كتابتي هذا الكلام هو انتشار البكائيات على \”الخلافة\” العثمانية والسلاطين الخلفاء العظام الذي كان أحدهم ليهب مرتديا ملابس الحرب عندما يعرف أن الفرنسيين ينوون عرض مسرحية مسيئة للرسول (ولا أعرف من أي مصدر جاء راوي هذه القصة عن السلطان عبدالحميد بقصته تلك!).. إلى آخر هذا الهراء الذي يصفه صديقي الباحث والكاتب إسماعيل الإسكندراني بـ\”الاستمناء على التاريخ\”.. عفوا لقسوة التعبير، لكني مقتنع به بشدة!
مشكلة هؤلاء الذين يمارسون هذا النوع مما أصفه أنا بـ \”المُحن التاريخي\”-والدولة العثمانية هي مجرد مثال- فضلا عن أدلجتهم التاريخ وتحويلهم إياه لصراع بين الفئة التي تمثلهم لتقارب ديني أو لغوي أو عرقي، ضد العالم كله الذي يتآمر عليها، فإنهم يسطحون التاريخ ويعتبرون أن الحياة تنقسم للخير المطلق والشر المطلق، فمن يرفع راية \”لا إله إلا الله محمد رسول الله\” هو الخير أما من سواه فهو الشر.. ومن يعترض على حامل الراية فهو كافر أو معادٍ للشريعة والدين.
على هذا الأساس الطفولي يقيّمون الدول والأنظمة وتجاربها التاريخية، ويختصرون عوامل الانتصارات في قوة الإيمان وأسباب الهزائم في ضعفه.. هؤلاء القوم يمثلون رِدّة عن ارتقاء العقل البشري الذي بدأ بالأسطورة والخرافة ثم تركهما وسار في ركب العلم والتفكير العقلاني فإذا بهم يرتدون للوراء ويقررون تفسيرات غيبية لوقائع مادية!
تعال ننظر لنموذج الدولة العثمانية كمثال لما يمكن لأدلجة التاريخ أن تفعل به:
دعونا نعترف أنها- الدولة العثمانية- كانت تمثل أحد خطوط الدفاع الشمالية عن المنطقة العربية، وكانت علاقاتها بالدولة المملوكية في مصر والشام رائعة، حتى إن السلطان المملوكي الأشرف إينال قد أرسل يهنيء السلطان العثماني محمد الفاتح بفتح القسطنطينية، بعد أن كان هذا الأخير قد أرسل البشارة إلى القاهرة بذلك، لكن، تغيّر هذا الوضع بعد وفاة الفاتح وتولي ابنه بايزيد الثاني الحكم.
ففي عهد السلطان المملوكي الأشرف قايتباي، وصل الأمير \”جُم\”- أخو السلطان بايزيد الثاني- إلى مصر هاربا من أخيه الذي كان يريد قتله بموجب قانون أقره الفاتح قبل موته، يعطي السلطان الحق في قتل إخوته الذكور منعا للتنازل على الحكم وإثارة الفتنة، ولأن السلطان قايتباي كان معروفا أنه لا يرد من استجار به، فقد أحسن استقبال الأمير -المعروف في المصادر التراثية باسم\”الجمجمة\”-واستضافه عنده.
أرسل السلطان العثماني إلى نظيره المملوكي يطلب منه تسليم أخيه، فرفض قايتباي ذلك احتراما لحق الضيف، فما كان من بايزيد الثاني إلا أن بدأ في التحرش بالممتلكات المصرية في شمال الشام وجنوب الأناضول، وهذا بتحريض القبائل والإمارات التركمانية الموالية للمماليك أن تخلع الطاعة وتغير على حلب ومدن شمال الشام.. ورغم انتهاء أزمة الأمير جم بفرار هذا الأخير من مصر إلى أوروبا (بعد رفض قايتباي أن يعينه على محاربة بايزيد رغم أن هذا كان ليكون في مصلحة المماليك) وحاول اللجوء للقوى الأوروبية، ثم توفي هناك في ظروف غامضة، إلا أن العثمانيين بقوا على استفزازهم للمماليك واعتداءاتهم بالقوة المسلحة أو بالتآمر على شمال الدولة، الأمر الذي استدعى لجوء القاهرة للقوة العسكرية التي استطاعت ردع هذه الاعتداءات.
ورغم ذلك العداء من قِبَل العثمانيين، حاول قايتباي أن يقر السلام مع بايزيد، لأن أصوات الاستغاثة كانت قد بدأت تصل من غرناطة المحاصَرة من الإسبان.. فجرت المراسلات بين القاهرة والقسطنطينية لإقرار السلام والتعاون عسكريًا لإنقاذ المعقل العربي الأخير في الأندلس، لكن، كان الوقت قد فات وسُلِمَت غرناطة لإيزابيللا وفرناندو.
وبدلا من أن يستمر التعاون العسكري لأجل إنقاذ مسلمو الأندلس الذين كانوا يعانون-إضافة لليهود- اضطهادا دينيا كاثوليكيا، تعرضت الدولة العثمانية لاضطرابات سياسية سببها تطلع سليم- ابن بايزيد- للحكم، وانتهت بالفعل باعتلائه العرش باسم سليم الأول الذي قرر- خذوا بالكم.. سلطان المسلمين العظيم الذي يسبّح كثير من الإسلاميين بحمده وحمد خلافته- أن يغزو الشام ومصر! طيب وأوروبا؟ المسلمون المضطهدون؟ والغارات الإفرنجية على شمال المغرب؟ لا.. فلنغزو الشام ومصر ونقيم خلافتنا!
ولأن خلفاء قايتباي كانوا بين لاهٍ ومتسلق وفاشل ومجنون، فقد كان من الطبيعي أن تسقط الدولة سريعا في يد العثمانيين.. وأن يدخل سليم الأول إلى القاهرة التي أباحها لجنوده – كأي غازٍ همجي يحترم نفسه- نهبا وسلبا وقتلا وترويعا إلى درجة اقتحام الأضرحة وقتل اللاجئين إليها.. حتى انحنى له كبراء المصريين، وقدموا له فروض الطاعة ودعوا له من فوق المنابر.
ومن سنة 1517م إلى سنة 1805م، بقيت مصر رهينة في يد الغول العثمانلي.
سؤال لهؤلاء الذين باسم أدلجة التاريخ يسبحون بحمد الدولة العثمانية وخلافتها المزعومة آناء الليل وأطراف النهار:
من بدايات القرن السادس عشر وحتى بدايات القرن التاسع عشر.. اذكروا لي عشر أسماء قدمتها المنطقة العربية الإسلامية والمناطق الواقعة في نطاق \”الإمبراطورية العثمانية\” للعالم في مجالات مثل الفقه، التاريخ، الاقتصاد، السياسة، الفن، الأدب، وغيرها.. لاحظوا أننا نتحدث عن منطقة تشمل من المحيط الأطلنطي إلى الخليج العربي، ومن جنوب السودان إلى اليونان والبلقان.
لماذا لا تردون؟
حسنًا: كيف حمت الدولة العثمانية المناطق العربية والإسلامية؟ ما هي آلياتها للقيام بذلك؟ وهل نجحت تلك الآليات؟ هل كان تقاسم القوى الاستعمارية الأوروبية لممتلكات العثمانيين في القرن التاسع عشر ليكون أكثر صعوبة لو لم يقم العثمانيون بفصل الأقاليم العربية بعضها عن بعض وفرض المركزية المفرطة عليها وتحويلها لمجرد موارد للخزانة السلطانتية؟
كيف -والسؤال للإسلاميين بالذات- تقولون إن الدولة العثمانية كانت خلافة، بينما تعلمون أن الشروط الأربع الأساسية للخلافة أن تأتي بالبيعة الحرة، أن يعمل الخليفة بالشورى، أن يحكم بالعدل، وأن يكون قرشي النسب؟ (راجعوا كتاب \”الأحكام السلطانية والولايات الدينية\” للإمام القاضي أبوالحسن الماوردي) هل في الخلافة توريث؟ هل فيها استبداد بالحكم؟ هل عمل العثمانيون بالشورى؟ هل حكم جميعهم بالعدل؟ هل هم قرشيو النسب؟ ماذا عن الحديث القائل بأن الخلافة بعد النبوة ثلاثين عاما ثم ملكا عضوضا؟ هذا الحديث بموجبه لا الأموية ولا العباسية ولا الفاطمية ولا الأموية في الأندلس تنطبق على أي منها صفة الخلافة.. فلماذا تكون العثمانية استثناء؟
ماذا عن طريقة تكوين فرق الإنكشارية بانتزاع أطفال صغار من أحضان أسرهم غير المسلمة وتكوين فرق مسلحة منهم؟ هل هذا مما يقره الإسلام؟
سؤال أخير: هل أعز سلاطين بنو عثمان الإسلام والمسلمين؟ كيف؟ بالضرائب الفاحشة والضرب بالعصا عقابا على تأخيرها؟ أم بالولاة المرتشون وانتشار الفساد الإداري؟ أم بالجرائم العنصرية في حق غير المسلمين؟ أم بنشر الخرافات والدروشة ومحاربة العلم والتنوير؟
……….
إن تقييم الأمم والدول والحكام والأنظمة، يكون بفصل تام بين المشاعر-بالذات الدينية والوطنية-والعقل.. ويكون التقييم على ثلاثة مستويات هي: الدولة خارجيا، الدولة داخليا، وحال الشعب.. فلا يمكن أن نختصر تقييم دولة في أنها كانت تمتلك جيشا قويا، أو أنها كانت ملتزمة دينيا من حيث المظهر.. بل يجب أن نفحص كل جانب من جوانب الحياة وكل مجال من المجالات على حِدة، ثم بعد ذلك نقوم بتقييم الدولة/النظام/الحاكم في ضوء كل ذلك.
لكن فكرة أن نعظّم من دولة فقط لأنها كانت تعيد أيام الفتوحات وأمجادها وقهر جيوش الأمم وهذا الكلام الكبير، هي فكرة طفولية، خصوصا لو علمنا أن السلطات \”الفاتحة\” كانت تهتم بتحصيل الضرائب والجزية أكثر مما تهتم بنشر الإسلام أو ثقافته، بل وكانت تقدم صورة قبيحة شديدة القتامة للمسلم أمام أعين الشعوب الأخرى، وما مذابح الأرمن ببعيدة – بمقاييس التاريخ-حتى ننسى!
لماذا اكتست نظرة هؤلاء للدولة العثمانية – وأكرر أنها مجرد نموذج-بالطفولية وانعدام النضج؟ ببساطة لأنهم قد قرروا أن ينظروا للتاريخ عبر أيدولوجياتهم وتوجهاتهم ونزعاتهم وانحيازاتهم، وليس عبر العقل والعلم والمنطق.
هذا عن \”عينة\” من المصائب المترتبة على أدلجة التاريخ.
فماذ عمّا يحدث إذا فصلت النص التاريخي عن سياقه؟
هذا ما سنتناول في المقال القادم.
(يتبع)
مصادر المعلومات:
– العثمانيون: د.محمد سهيل طقوش
– الدولة العلية العثمانية: محمد فريد بك
– تاريخ الشعوب الإسلامية: كارل بروكلمان
– عصر سلاطين المماليك:د.قاسم عبده قاسم
– بدائع الزهور في وقائع الدهور: ابن إياس الحنفي
– مصر المملوكية: د.هاني حمزة
– حضارة العرب: جوستاف لوبون
-دراسات في تاريخ العرب الحديث: د.صلاح أحمد هريدي.