\”ونفس وما سواها.فألهمها فجورها وتقواها\”
سورة الشمس.. 7 و8.
\”مولاي يحاكم بشرا لا آلهة\”
إيزيس تخاطب أوزوريس في محكمة الآلهة.. رواية \”أمام العرش\” نجيب محفوظ.
\”تذكر أنك إنسان\”
تقليد روماني، حيث اعتاد الرومان في مواكب تكريم القادة أن يوقفوا وراء القائد المنتصر عبدا يهمس له بهذه العبارة، كلما تعالت هتافات الجماهير.
\”عناصر التاريخ ثلاثة: المكان والإنسان والحدث\”
د.قاسم عبده قاسم \”قراءة التاريخ\”
……….
الإنسان هو الموضوع الأهم لكتب التاريخ.. هذه معلومة ينساها للأسف كثير ممن يتناولون الشخصيات التاريخية قراءة وكتابة وبحثا، فتراهم إما يقدمون هذا الشخص أو ذاك كإنسان كامل أو ملك منزل من السماء، أو في المقابل قد يخسفون به إلى سابع أرض فيصورونه كشيطان مريد.
وكلا الطريقتين تحمل انفصالا عن الواقع الذي يقول أن الإنسان-أي إنسان- هو نفس بشرية بها من الخير والشر، ومن المميزات والعيوب ما بها، والنفس البشرية أعمق وأوسع من ألا تحتوي سوى الخير أو ألا يحتويها إلا الشر.. بالتالي فإن الشيطنة أو الملائكية هي نظرة غير ناضجة للإنسان كأعقد مخلوقات الله.
المفترض بمن يتناول شأنا مهما كالتاريخ أن يعي ذلك ويراعيه.
……….
مما يؤخذ على بعض كتاب التاريخ أنهم لا يراعون ما سبق في كتاباتهم.. في المقال السابق ذكرت د. علي الصلابي وتناوله لشخصية محمد علي باشا كمثال، فقد أفرد الكاتب فصلا كاملا من كتابه \”الدولة العثمانية\” لذم محمد علي إلى حد ربطه بالماسونية ومؤامراتها المزعومة، أما كتابه \”الدولة الزنكية\”، فقد جاء معظمه في شكل ما يمكن وصفه بالغزل والتعظيم والتفخيم للقائد الزنكي نورالدين محمود بن عماد الدين زنكي، فالحديث عن هذا القائد والحاكم لم يتناول سوى مميزاته وإنجازاته ومناقبه بلا أدنى ذكر لأية سلبيات أو أخطاء أو نقائص طبيعية التوفر في أي إنسان بلا استثناء كجزء من الطبيعة البشرية.
ونورالدين وإن كان بالفعل قائدا عظيما ومثالا يحتذى للحكام، إلا أنه في النهاية إنسان، على من يتناول سيرته ألا ينفي عنه القابلية للوقوع في الخطأ أو الاتصاف ببعض العيوب أسوة بكل بني البشر، أما تقديمه كنموذج مثالي فهو مما يضر بالتاريخ وبقارئه، واحتجاج من يؤيدون طريقة د. الصلابي بأنه يريد أن يقدم للقراء القدوة والمثل الأعلى مردود عليه بأن من أهم أسرار عظمة أي إنسان متميز، هو تحديه سلبياته ونقاط ضعفه البشرية وتغلبه عليها، بالتالي فإن فصل إنسانيته عن سيرته إنما هو في حقيقة الأمر انتقاص غير مقصود من قيمته.
سأعطيكم مثالا بسيطا ربما بدا للبعض هزليا، إلا أنه يعكس واقعا جماعيا: لو قارننا بين شعبية كل من شخصيتا سوبرمان وباتمان للاحظنا أن هذا الأخير يحظى بالشعبية الأعلى لسبب بسيط، هو أنه إنسان به نقاط للضعف يمكن النيل منه من خلالها، إلا أنه يتحداها ويخوض معاركه عالما بها، بينما سوبرمان كائن خارق خال -تقريبا- من نقاط الضعف الجسدية، بالتالي فإن بطولته ناقصة لعلمه أن مساحة الخطر عليه بسيطة.
من نفس المنطلق قد يتساءل القاريء: مادام هذا الشخص كاملا، فما الذي يستحق الإعجاب فيه؟
ومثال آخر، في كتاب المؤرخ الفارسي الصوفي القديم فريد الدين العطار \”تذكرة الأولياء\” يقص علينا سير بعض الأئمة وأولياء الله الصالحين -قدس الله سرهم- فيصورهم لنا أشخاصا كاملين، بل يجعلهم يفوقون الكمال البشري الطبيعي، حتى لتخرج تصرفاتهم وردود أفعالهم ومواقفهم عن الطبيعي من البشر، فلا تراهم يغضبون أو يأسفون أو يعتريهم ما قد يعتري البعض من مشاعر وانفعالات السخط أو اليأس أو الاحتداد، وهو بذلك يسيء من حيث أراد أن يحسن، فمثل ذلك التقديم الخيالي لإنسان يجعل القاريء المتشكك يفقد الثقة في مصداقية الكتاب التاريخي، أو يدفع القاريء -سهل التصديق- للشعور أن \”الأسلاف\” كانوا نماذجا خارقة على كل منا أن يتشبه بها وإلا فقد خاب وخسر!
……….
من ناحية أخرى، يحدث العكس.
فعلى سبيل المثال، نشبت منذ فترة \”خناقة\” بسبب تناول شخصية السلطان صلاح الدين الأيوبي.. السبب كان مقالا في \”المصري اليوم\” يتحدث عما وصف بالجانب الآخر من سيرة صلاح الدين، مثل قمعه الفاطميين واستيلائه على ممتلكات الأزهر وعدم استكماله تحرير فلسطين من أيدي الفرنجة، في المقابل قام محبو القائد الأيوبي بـ \”التصدي\” لما وصفوه بالتطاول عليه، فهاجموا المقال لا من زاوية قصوره التاريخي ولا من ناحية اجتزائه الأحداث، لكن من منطلق أنه يمثل اعتداء على رمز تاريخي.. وبحق الله! كم نالت صناعة الأصنام/الرموز التاريخية من علم التاريخ بالسلب!
ولسنا هنا في موضع للحديث عن تحليل وتفسير مواقف صلاح الدين، لكن ما يهم هو ما قام به الجانبان من تناول للتاريخ من زاوية واحدة، فكما قام كاتب المقال بشيطنة الشخصية، فقد تناولها المدافعون من منطلق ملائكي ينزهها عن الخطأ.. وهكذا تفرق دم الموضوعية التاريخية بين القبائل!
……….
من المفهوم والمقبول والصحي أن تختلف النظرات والرؤى والتقييمات للأشخاص التاريخية، لكن على منطلق المختلفين أن يرتكز لقاعدة من الموضوعية والدقة والعقلانية والسعي بصدق لتقديم الواقع التاريخي كما هو لا انتقاء ما يخدم الانحياز الفكري أو وجهة النظر المعدة مسبقا.
فالتاريخ أمانة، وعلى من يتصدى له إذا عرضت عليه الأمانة أن ينظر لنفسه، فإما أن يكون أهلا لحملها، أو أن يشفق منها على نفسه وعلينا فيأبى أن يحملها.. ورحم الله امرأ عرف قدر نفسه.
والإنسان خليفة الخالق في أرضه، فتسطيحه وإظهاره ككائن أحادي الجانب هو ابتذال له ولو نصب التاريخ محكمة وسن قانونا لحاكم من يقومون بهذا بتهمة \”ازدراء الإنسان\”
(يتبع)