التاريخ أمر واقع، لا يجامل ولا يحابي.. خذه كما هو أو اتركه كما هو!
كثيرا ما يسألني البعض: \”ماذا ستكتب عن الثورة.. مبارك.. المجلس العسكري.. الإخوان.. السيسي.. إلخ..\”
وعندما أجيبهم أنني لو قمت بتأريخ تلك الفترة، فسأقول تحت اسم كل شخص أو كيان \”فعل كذا وكذا، وقيل عنه كذا وكذا بالسلب أو بالإيجاب\”، وأنني لن أقحم مواقفي السياسية أو مشاعري الوطنية في سرد الأحداث، وسأحرص على عرض كل وجهات النظر أيا كانت قناعاتي الشخصية، تواجهني نظرات الاستنكار والسخط.
المشكلة أن قطاعا كبيرا من قراء التاريخ لا يميزون بين مجرد التأريخ والسرد والتوثيق من ناحية، والتحليل والرأي من ناحية أخرى.
فإن كان التحليل يخضع أحيانا لزاوية نظر الكاتب للأمور- مع احترام المعطيات الواقعية بالتأكيد- فإن التأريخ والسرد لا يخضعان لأية وجهات نظر أو أهواء، بل إن على القائم بهما أن يحيّد مشاعره ومواقفه جانبا وهو يمارس عمله.
على سبيل المثال، لو أنني سأتحدث عما حدث في 25 يناير 2011 كمجرد راو للأحداث، فسأذكر الوقائع الموثقة بمصادرها، وسأعرض كل وجهات النظر القائلة منها بأنها ثورة شعبية، وكذلك تلك التي تصفها بالنكسة والمؤامرة.
أما لو تحدثت كمحلل أو كاتب رأي، فستنطلق كتاباتي من كوني قد شاركت في الثورة وكمتحمس لها.
هذا ما تفرضه علي الموضوعية والدقة، وكذلك أخلاقيات كاتب التاريخ.
المشكلة الثانية التي تواجه الكتابة التاريخية هي آفة \”أدلجة التاريخ\”، أي تناول وقائعه من منطلق أيدولوجية معينة تنظر للأحداث من زاوية واحدة هي الانتماء الفكري أو الثقافي لكاتبه.
للأسف فإن بعض أشهر كتاب التاريخ مصابون بهذا الداء، فتراهم ينظرون للأحداث والشخصيات من منطلق انتمائهم، فيحاكمون الشخص بمجرد كونه \”هو\”، وليس من منطلق كونه \”الإنسان\”، أهم العناصر الثلاث سالفة الذكر للتاريخ.. فيعتمدون في تقييمه على مدى توافق مواقفه وتصرفاته مع فكرهم أو تنافرها معه.
على سبيل المثال، فالكاتب د. علي الصلابي في كتابه \”الدولة العثمانية\” يقيم شخصية محمد علي باشا من منطلق سخطه -أعني الكاتب- على تمرد محمد علي على السلطة العثمانية، فنراه يشتط في القسوة عليه لخروجه على \”الخلافة\” حتى يصل لدرجة اتهامه بالماسونية والتآمر على الهوية الإسلامية! ولا أعرف من أين أتى د.الصلابي بأدلة هذا الاتهام الخطير.
وإحقاقا للحق، فإن كثير من أولئك الذين يقعون في هذا الخطأ في تناولهم أشخاص وأحداث التاريخ، إنما يفعلون ذلك بحسن نية، لكن سواء كانت النية سليمة أو خبيثة، فإن النتيجة واحدة:تشويه فاحش للتاريخ وإهانة بالغة للبحث العلمي.
المشكلة الأخرى -وليست الأخيرة للأسف- هي تقييم معطيات الماضي بمعايير الحاضر، أو محاكمة الحاضر بقواعد الماضي.
أما عن الأولى فيقع فيها عادة أهل التيار المدني، فيقوم بعضهم بإطلاق الأحكام على أحداث وشخصيات التاريخ القديم من منطلق قناعاتهم بما يجب أن يكون حاليا.. فعلى سبيل المثال لا الحصر، نرى بعضهم يقسو في حكمه على بعض الشخصيات التاريخية وتصرفاتها بنفس قواعد حكمه على الشخصيات المعاصرة، فمثلا نقرأ للبعض كتابات يهاجم فيها فكرة قيام بعض الحكام بغزو جيرانهم في زمن كانت القاعدة السياسية فيه هي \”من لا يغزو يغزى\” من منطلق إيمان هذا الكاتب بما توافقت عليه الدول المعاصرة من قوانين حسن الجوار وعدم الاعتداء أو تدخل دولة في شئون الأخرى.
وأما عن الثانية، فنلاحظ انتشارها بين أهل التيار الديني، فنراهم يتحدثون عن الواقع المعاصر بطريقة استدعاء قواعد الماضي، فيقول بعضهم أن لو كانت هذه القاعدة أو تلك تنطبق حاليا لما وقع كذا وكذا من المشكلات.. مثلا دعونا نتأمل قول البعض بانعدام حق غير المسلمين في تولي المهام العسكرية، وأن من المفروض عليهم أن يدفعوا الجزية، أو بأن جزء كبيرا من مشكلاتنا الاقتصادية يرجع لتوقف حركة الفتوحات و\”الجهاد\”.
مع أن الرد البديهي على كلا الفريقين أن \”التغير والتطور\” هما أهم قوانين الحياة الإنسانية، وأن ما يصلح لزمن ليس بالضرورة صالحا – بل ربما إنه قد يكون مفسدا- لزمن آخر.
تلك السلبيات الثلاث – الهوى الشخصي والأدلجة والتقييم المنفصل عن متغيرات الواقع- هي من أخطر آفات القراءة والكتابة التاريخية، والمهتم حقا بالاستزادة من العلم بالتاريخ عليه أن يراقب نفسه خلال قراءته فيه حتى يتجنب الوقوع فيها – وهو أمر وارد فجل من لا يخطيء- أو أن يعالج نفسه منها لو كان مصابا بها بالفعل، وإلا فإنه لن يمثل إلا إضافة جديدة سيئة لما يمكن أن يوصف بـ \”حركة تخريب التاريخ\” حتى وإن كان حسن النية، فقديما قيل -وقد صدق قائلها- إن الطريق إلى الجحيم مفروش بالنوايا الطيبة.
(يتبع)