وليد فكري يكتب: في حضرة التاريخ (14)

ذات مرة، كتبت على الفيسبوك: \”اذكر بعض الاختلافات بين الواقع وما ورد في أحد الأعمال الدرامية الشهيرة\”، فوجئت بتعليق يقول: \”حسبي الله ونعم الوكيل في صناع الدراما الذين يزورون ويشوهون تاريخنا\”

عبثا حاولت أن أشرح لصاحب التعليق أن ثمة مسافة تفصل بين العمل التأريخي العلمي، والعمل الدرامي الذي يهدف في المقام الأول لتقديم صورة سينمائية ودرامية ثرية وجميلة.. لكنه للأسف لم يقتنع، وبقي على موقفه المتصلب، متحججا بأن على صناع العمل التنويه أنه عمل خيالي لا يمت للواقع بصلة، وعبثا حاولت مرة أخرى تنبيهه لأن الخطأ لا يقع على صناع الدراما، وإنما على من يستقون معلوماتهم من الروايات والمسلسلات والأفلام التاريخية باعتبارها حقائق لا شك فيها.

……….

تلك من مشكلات التعامل مع التاريخ، أن كثيرا من الناس يعتمدون في تحصيل المعلومات عنه على الروايات والأعمال التمثيلية، والنتيجة: كثيرون يعتقدون أن صلاح الدين ذهب متنكرا لمعسكر الفرنجة لمعالجة جرح ريتشارد قلب الأسد، أن الهكسوس احتلوا طيبة بعد مقتل سيكننرع، أن قطز كان ملاكا مثاليا معصوما من الخطأ، وغيرها من الأمور التي لا تعدو أن تكون لمسات درامية على الأحداث وضعها صناعها بحسن نية غير متوقعين أن يعتبرها البعض حقائق مطلقة، هذا إن فرضنا أن في التاريخ -أو الحياة بشكل عام- ما يمكن وصفه بالحقيقة المطلقة.

الناس -إلا من رحم ربي- بين متطرف في الخلط بين الواقع والدراما، ومتطرف في رفض وإدانة أي مساس درامي بالتاريخ.

……….

لكن، هل هذا يعني أن صانع الدراما وكاتب الأدب لهما مطلق الحرية في التعامل مع المعطيات التاريخية لخدمة العمل؟ بالطبع لا، فثمة مقولة للكاتب الفرنسي ألكساندر دوماس صاحب الروائع \”الفرسان الثلاثة\” و\”كونت دو مونت كريستو\” وغيرها، هي: \”لا بأس أن تعتدي على التاريخ بشرط أن ينجب منك طفلا جميلا\”،

ولكي يكون \”الطفل جميلا\”، فلابد من مراعاة بعض الضوابط الأخلاقية خلال عملية التعامل بالتعديل مع الأحداث والمعلومات التاريخية.

فلا يصح مثلا أن يتجاوز صاحب العمل حدود المرونة في التعديل الدرامي للتاريخ إلى منطقة \”تشويه التاريخ\”، كأن يجعل عمله الدرامي/الأدبي مسيسا بغرض النيل من شخصية أو فصيل سياسي أو تيار بعينه، أو أن يكون هدفه تلميع هذا الحاكم أو ذاك، أو خدمة نظام يحابيه سواء بتقديم صورة مثالية له أو بشيطنة بعض خصومه.. هل يريد القاريء مثالا؟ يكفي أن يشاهد بعض الأعمال الدرامية التي تقدم الملك فاروق فقط في صورة الطاغية العابث الفاسد الدموي الهاتك للأعراض، أو التي تخلط بخبث بين الصهيونية واليهودية، أو التي تكرس العمل كله لتمجيد حاكم ونظام معاصر لها.

مثل هذه الأعمال لا يمكن وصفها بالطفل الجميل، فهي تمثل انتهاكا ليس للتاريخ وحده، بل للفن كرسالة راقية وكذلك لأخلاقيات الإبداع الذي يفترض أن يكون هدفه إضافة مزيد من الجمال لعالم به من القبح ما يزيد ويفيض.

……….

قديما قال بعض الفلاسفة أن الفضيلة تقع دائما بين رذيلتين، كذلك يقع الإبداع الفني بين التشدد والتنطع من ناحية والإهمال والنفاق من ناحية أخرى.. وفي كل الأحوال فإن على المتعامل مع علم التاريخ أن يعتدل في تقييمه الأعمال الأدبية والدرامية التاريخية، فلا يكون مائعا متراخيا ولا متزمتا متنطعا.. وفي كل الأحوال، دعونا نتفق على قاعدة: العمل الأدبي والتمثيلي يجب أن يتم تقييمه في المقام الأول بقواعد الأدب والفن، بينما للعمل الوثائقي والتأريخي الذي يهدف لتقديم التاريخ بشكل علمي قواعد وضوابط تقييمه المختلفة تماما عن تلك المنتمية لعالم الفن والأدب.

(تم)

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top