من لم يقرأ رواية \”أمام العرش\” -للرائع نجيب محفوظ- من المهتمين بعلم التاريخ فقد فاته الكثير، فمع الاتفاق أو الاختلاف مع بعض أو حتى كل محتوى هذه الرواية التي هي عبارة عن حوار بين أوزوريس قاضي محكمة السماء الفرعونية وحكام مصر من مينا حتى السادات، فدعونا نتفق أنها تقدم منهجا راقيا لعرض التاريخ هو ببساطة: فلان.. فعل كذا وكذا.. ثم تترك الباب مفتوحا للنقاش لتقييم ما كان منه خيرا وشرا.
هكذا يجب أن يكون تقديم التاريخ فيما يتعلق بسرد أحداثه وتوثيقها -وهو ما يختلف بالطبع مع تقديمه في شكل تحليل أو مقالات رأي بموضوعية وحيادية وتجرُد من العواطف والمشاعر والأهواء، وعرض لمختلف الآراء ووجهات النظر، وتقليب للأحداث والأشخاص وتأمل لها من كل الزوايا بدون حرج أو تهيب أو محاباة أو تغليب لموقف سياسي أو أيدولوجي. ……….
يسألني البعض عما سأكتب عن عهد مبارك، أو عهود المجلس العسكري/طنطاوي، مرسي/الإخوان، عدلي منصور ثم السيسي.. عادة ما تكون إجابتي: هذا يتوقف على ما إذا كنت أكتب سردا وتوثيقا أم تحليلا وعرضا من وجهة نظري كشاب شارك في ثورة 25 يناير وموجة 30 يونيو الثورية -مع الاحترام لكل الآراء فيهما- فإذا كنت سأقوم بالتوثيق لما جرى في 25 يناير 2011 مثلا، فسأعرض كل وجهات النظر، من تلك القائلة بأنها ثورة شعبية عظيمة، وحتى هذه التي تعتبرها نكسة أو مؤامرة، مع استعراض حجج كل منهما. أما لو كنت سأتحدث من \”زاويتي\”، فسأتحدث كشاب شارك في الثورة وتحمس -وما زال متحمسا- لها.
هل هذا صعب؟ بالتأكيد، لكنه ليس مستحيلا، فلنتأمل مثلا كتابات دكتور جلال أمين عن العهد الساداتي، فالأستاذ الجليل لا يخفي كراهيته للسادات، بل وفرحته بزوال عهده، لكنه يلتزم في نفس الوقت بالأمانة مع قارئه، فلا يدّعي أنه يقدم له توثيقا أو سردا لأحداث هذا العهد، بل يبدو واضحا أنه يتحدث من زاويته الخاصة ومن منطلق رأيه الشخصي.
ولنتأمل كذلك كتابات المؤرخ اللبناني دكتور محمد سهيل طقوش عن مختلف الدول والأنظمة التي حكمت في عصر الحضارة العربية الإسلامية، فهو لا يغلب وجهة نظره كرجل ذي خلفية إسلامية أو موقفه كمنتمي للثقافة العربية، بل يقدم مختلف الروايات والتوثيقات والآراء بأمانة شديدة تاركا للقاريء تكوين وجهة نظره الخاصة.. وبحق فإن هذين النموذجين هما مما يجب للمتطرق للتاريخ كتابة وحديثا أن يحتذى.
……….
لا يتعارض هذا مع حقيقة واقعية هي أن كاتب التاريخ قد يتأثر بالموقع الذي أرادت له الأقدار أن يكون فيه خلال وقوع الأحداث التي يؤرخ لها، فعلى سبيل المثال، يلاحظ القاريء لكتاب \”النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة\” تأثر صاحبه المملوكي أبو المحاسن يوسف بن تغري بردي بموقعه كابن للأتابك تغري بردي الذراع اليمنى للسلطان والقائد العام للجيش، والمتأمل في كتاب \”السلوك لعرفة دول الملوك\” للعلامة المقريزي يلحظ شدة اعتنائه بأدق تفاصيل الحياة الاقتصادية لعامة المصريين بحكم اشتغاله بوظيفة \”المحتسب\” القائمة على تنظيم ومراقبة الظروف المعيشية للرعية آنذاك، وفي العصر الحديث يبدو جليا في كتابات الأستاذ محمد حسنين هيكل تأثره بفترة اقترابه من صناع القرار في العهد الناصري.
ليس في كل ما سبق ما ينتقص من مصداقية المؤرخ، فهو في النهاية إنسان، ومهما بلغت قدراته واتساع أفقه فإنه لابد متأثر بظروف معاصرته للأحداث وموقعه منها، لا ينال منه إلا إخفاء أو إغفال متعمد لحقائق واقعة أو محاولة لتزوير ما حدث بالفعل أمامه، فالتزام المؤرخ هو ما يمكن وصفه بلغة القانونيين بأنه \”التزام ببذل عناية\” لا \”التزام بتحقيق نتيجة\”، فليس مطلوب منه أن ينجح في مهمة تقديم تأريخ دقيق موضوعي محايد بنسبة 100%، بل مطلوب منه أن يبذل قصارى جهده لتحقيق أقصى درجات الموضوعية والحياد والدقة والتجرد، فهو كالمجتهد في أمور الفقه، إن أصاب حُمِدَ وإن صدق، بذل الجهد وأخطأ حُمِدَ أيضا. ……….
وثمة سؤال هام: هل مما ينتقص من مصداقية المشتغل بالتاريخ أن يعلن مسبقا عن مواقفه وانحيازاته؟
الإجابة هي: لا.. ليس بالضرورة، فلو سمح لي القاريء أن أقدم نفسي كمثال متواضع، فأنا -مثلا- يعرف أغلب قرائي أنني ليبرالي التوجه، وأنني شاركت في ثورة 25 يناير وانتفاضة 30 يونيو -مع إعادة التأكيد على احترامي لكل الآراء المخالفة للوصفين- وأنني أعتز جدا بالحضارات الفرعونية والبطلمية والقبطية والعربية الإسلامية، وأنني أبغض الفترة العثمانية ودولتها، واعتبرهما أحط ما شهد التاريخ الشرقي، وأنني أنظر بعين البغض لعهود مبارك وطنطاوي ومرسي، وبعين الإشفاق وخيبة الأمل والخوف على الوطن من عهد السيسي، لا مشكلة عندي في أن يعرف القاريء ذلك، بل إنني أرى أنه من حقه عليّ تحسبا لأي ميل أو انحياز غير مقصود قد يحدث مني، فيأخذ حذره.
كذلك فإن ميل كل من الأستاذ هيكل والدكتور جلال أمين للعهد الناصري، لا ينال من مصداقيتهما عندي، واعتزاز كل من دكتور حسين مؤنس ودكتور محمد سهيل طقوش بالثقافة الإسلامية لا يضعفهما كمؤرخين، فالمؤرخ ليس آلة جامدة بلا مشاعر، بل هو بشر يكتب تاريخ بشر مثله.. فأي بأس في هذا؟ ……….
المشكلة تقع عندما يؤثر فكر وموقف المشتغل بالتاريخ في سرده للأحداث.. لقد ضربت مثالًا في مقال سابق بكتابات دكتور علي محمد الصلابي عن الدولة العثمانية ومحمد علي باشا وعن الدولة الزنكية ومدى تعصبه وانحيازه وتأثير أيدولوجيته في سرده للأحداث، وأحيل القاريء كذلك لكتاب \”الدول العلية العثمانية\” للمؤرخ والمناضل الوطني محمد فريد بك، الذي يبدي انحيازا رهيبا للدولة العثمانية إلى حد أنه في تناول أحداث القتال بين تيمورلنك والسلطان بايزيد وهزيمة هذا الأخير على يد الأول وأسره ووضعه في قفص حتى الموت، يتحسس من ذكر تلك الحقيقة، فيقول إنه وُضِعَ في هودج فاخر، وكأن الأمر أقل وطأة! ……….
ولو تركنا جانبا مشكلة تأثير العاطفة على تناول التاريخ، فإننا نجد أنفسنا أمام مسألة أخرى هي: الحساسية تجاه قراءة التاريخ من زاوية \”الآخر\”، بالذات لو كان هذا الآخر منتميا لما يمكن وصفه بمعسكر \”العدو\”.
(يتبع)