وليد فكري يكتب: في حضرة التاريخ (10)

 

هل نحن محور الكون؟

بمعنى، هل هناك من أسباب عقلانية منطقية تدفعنا لأن نعتقد أننا -المصريون/العرب/المسلمون- مركز الكون وأن أحداث التاريخ كلها تدور حولنا أو بمناسبة وجودنا بشكل أو بآخر؟

هذه إحدى جرائم بعض من يتناولون التاريخ، أنهم يزرعون فكرة أن التاريخ يتمحور حولنا، وأن ما من حدثٍ يجري إلا وهو مرتبط بنا بشكل مباشر أو نحن طرف فيه بشكل أو بآخر.

مع أن هذا الكوكب البائس به أكثر من 190 دولة، قامت في تاريخه القديم وحتى العصر الحديث أكثر من 20 حضارة قوية، به من الأعراق والأجناس والقبائل والشعوب والأمم ما به.. فما الذي يميزنا لنكون أصحاب البطولة المطلقة في هذه الدراما الأرضية، ولنعتبر كل شيء حدث، يحدث، أو سيحدث جزء من المؤامرة الكونية ضدنا؟                                        ……….

تعالوا نحلل الأمر بشكل مبسط، ونأخذ \”الغزو والاستعمار\” كمثال لأهم أحداث التاريخ: نحن-كمصريون-قوم شاء القدر أن نعيش في دولة ذات موقع جغرافي شديد التميز، وكعرب وضعتنا يد القدر في بقعة من العالم تتميز-فضلًا عن موقعها-بتنوع وكثرة مواردها الطبيعية.. عندما يأتينا غازٍ أو يدبر ضدنا متآمر فهل هو يفعل ذلك فقط لكوننا عربًا أو مصريون؟ أم أنه يستهدف الموقع والثروات؟ في ضوء تاريخ الغزوات والحروب ومحاولات السيطرة والاستعمار لمصر والعالم العربي، هل كان موقف الغزاة ليختلف لو كان يعيش في هذه البلاد شعب آخر وأجناس أخرى وثقافات غيرنا؟ وهل كنا لنتصادم مع هذه الدول والشعوب لولا الموقع والثروات الطبيعية؟

أو لنطرح سؤالا آخر: لو كان التاريخ يدور حولنا بالذات -وما زلنا مع مثال الغزو والاحتلال والاستعمار- لماذا غزت إسبانيا أمريكا الجنوبية؟ ما سر استماتة إنجلترا على استعمار الهند وآسيا؟ لماذا كان الصراع الفرنسي الإنجليزي المرير على استعمار أفريقيا السمراء؟ هل هؤلاء القوم عرب أو مصريون؟

هل تاريخ هذه الشعوب والأمم في أفريقيا والهند وأمريكا اللاتنينية أقل شأنا من التاريخ المصري والعربي؟ هل نضال الأفارقة ضد الاحتلال والعبودية والتفرقة العنصرية أقل من نضال المصريين ضد الاستعمار البريطاني؟ هل غاندي في الهند أقل شأنا من سعد زغلول في مصر؟ هل نستطيع أن نقول إن جيفارا أقل قيمة من عبدالناصر؟

لماذا يتعامل البعض مع التاريخ العالمي باعتبار أن مصر والعرب هم الأبطال وباقي الشعوب والأمم هم \”سنّيدة\” وكومبارس؟

ولماذا يغفلون حقيقة أن ثمة شعوب ودول كاملة قامت وسقطت وقام غيرها دون أن تدرك أن على الأطراف الأخرى من العالم قوم اسمهم المصريون أو العرب أو المسلمون؟ حول من كانت تتمحور حياتهم وتاريخهم إذن؟

……….

وربما لاحظ القاريء أنني أجّلت تناولت الشق \”الإسلامي\” من تلك \”النظرية\”، هذا لأنه الأخطر، فهو يحوّل كل ما يجري في العالم لمؤامرة أو منافسة أو عداوة موجهة ضد المسلمين -وهو تناوُل مرتبط جدا بـ \”البارانويا التاريخية\” التي تحدثت عنها في المقال السابق- فهو لا يبحث عن الرابط المنطقي العقلاني وعلاقات السببية بين مختلف الأحداث والمتغيرات في كل أنحاء العالم وعلاقة بعضها ببعض -ظاهرة كانت أو مستترة- بل هو يخلق \”نواة\” معنوية لكل ذلك هي \”المسلمون/الأمة الإسلامية\” ويجعل من الدول والشعوب والأنظمة أجساما تدور في فلكها!

وكأن الأرض لم تُخلَق وجود المسلمين بآلاف السنين! ولم تشهد دولا وأنظمة وصراعات.. (قارن بين تلك الفكرة وفكرة بعض المتعصبين من اليهود عن أن التاريخ هو رحلة الشعب اليهودي وملحمته)

والمثير للتأمل أن نظرية صراع \”المسلمين ضد العالم/العالم ضد المسلمين\” تتعارض مع نظرية أخرى لدى نسبة ضخمة من الإسلاميين هي \”الحدود والانتماءات السياسية.. لا قيمة لها مقابل الانتماء للأمة الإسلامية\”، فلو فرضنا مثلا أن الحرب الأمريكية على العراق هي جزء من حلقة الصراع ضد المسلمين، فما هو موقف المسلم الأمريكي من وجهة نظر من يرون الأمر كذلك؟ هل هو جزء من الأمة الأمريكية المحاربة للمسلمين أم أنه من المسلمين الموجهة ضدهم الحرب؟ ولو كانت الثانية، فلماذا لا يتعرض لنفس ما يتعرض له \”المسلمون\” في العراق؟ وهل غارات الأمريكيين تنتقي من الأساس بين المسلمين وغيرهم في ضحاياها؟

ولماذا يغفل هؤلاء أن القرآن -لو نظرنا للأمر من زاويتهم الدينية- قد خاطب \”الناس\”، وليس \”المسلمون\” فحسب؟! أي أن حتى الكتاب المقدس للمسلمين لم يجعلهم محور الكون! فمن أين أتوا بهذا المعتقد التاريخي الفاسد؟

……….

المأساة فيما يتعلق بتلك النظرة للتاريخ أن المريض بها له ثلاث مستويات: الأول هو المريض بها بصفته مسلم فقط أو مصري فقط أو عربي فقط، الثاني هو المريض بها بصفته مسلم عربي أو مصري عربي أو مسلم مصري، أما المستوى الأصعب فهو المصاب بها كمسلم مصري عربي في نفس الوقت، فهو ينظر للعالم بنوع من العنصرية المركبة، وهو ينظر أيضا لمن يشتركون معه في هوية أو اثنين فقط من الثلاثة باعتبار أنه \”من أهل الريبة\”.. جرب أن تتحدث مع مثل هذا الشخص أو أن تتناقش معه، وستجد مأساة حقيقية.. حالة مثيرة للرثاء!

ولو تركنا مسألة \”نحن مركز التاريخ\” جانبا، فلن نعدم مشكلات ليست بالأقل خطورة.. مثل \”النظرة العاطفية للتاريخ\” أو بعبارة أوضح \”أن تكتب التاريخ متأثرا بمن تحب ومن تكره\”!

(يتبع)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top