وليد فكري يكتب: في حضرة التاريخ (1)

 

في البدء كان المكان، ثم خلق الله الإنسان وعلمه الأسماء كلها ووهبه العقل.. أخبره عن الخير والشر.. بشره أنه قد جعل له رفاق صدق يألفهم ويألفونه، أنذره أن سيكون له دوما أعداء يكيدونه ويكيدهم، وأعطاه حرية الاختيار.. عاش الإنسان في المكان ومن التقائهما جاء الحدث.. ومن المكان والإنسان والحدث تكّون التاريخ، كبر، عاش، ونضج.

ولد التاريخ حرا إذا، وعاش حرا لقرون طويلة، حتى كتب عليه القدر أن يعتقل بين سجن الكتب الثقيلة الجافة المتربة وحبس الصورة الذهنية العامة للكثيرين أنه لا يخرج عن كونه حواديت مسلية عابرة أو معلومات جافة باردة لا روح فيها، وكلما حاول الهرب من محبسه ردوه إلى زنزانته وحاصروه بتلك الأفكار كما كان المجذومون يحاصرون في القرون الوسطى في معازلهم حتى الموت.

هذه مأساة التاريخ في زماننا هذا أنه محاصر في كونه مجرد علم نظري ثقيل وممل، كل استخداماته تنحصر في بضع فصول من المقرر المدرسي  يحفظها الطالب ويتقيأها-عفوا للتعبير، لكني لا أجد وصفا آخر أكثر واقعية -على ورقة الإجابة- ليحصل على درجة النجاح.. أو في كونه مادة صالحة ليقوم كل من هب ودب بتطويعها كالصلصال الطري لخدمة أغراضه التي لا تخرج عن تدعيم لموقف تيار سياسي منتفع وتشويه لتيار منافس لا يقل نفعية في الغالب، أو توكيد لعظمة مصطنعة لحاكم سلطوي ديكتاتوري النزعة، أو بناء لحائط مبكى معنوي تذرف عنده الدموع على أمجاد الماضي المسحوقة.

سطّح هؤلاء التاريخ وهو أكثر عمقا، وعقدوه وهو أكثر بساطة.

التاريخ هو أنا وأنت ونحن.. ألم نذكر أن عناصره الأولى هي المكان والإنسان والحدث؟ الإنسان هو العنصر الأهم، وما الإنسان سوى نحن؟

على سبيل المثال: ما الذي يجعلك تستيقظ صباحا مبكرا عن موعد عملك بوقت محدد لتتخذ طريقا محددا تفاديا للزحام المروري بغرض الوصول في موعدك؟ لن يخرج الأمر عن احتمال من اثنين، إما خبرة سابقة مررت بها أو نصيحة وجهها لك البعض.. ما الذي يجعلك تقرر أن خيارات هذا الشخص أو ذاك ستؤدي به وبمن يتأثرون به –بالضرورة- إلى هذه النتيجة أو تلك (مع مراعاة أن المؤثرات الإنسانية ملزمة أي قابلة للاختلاف أحيانا وليست محتمة ثابتة كقواعد الفيزياء).. هذا التوقع من أين أتى؟ أليس من مخزون الخبرات والمعارف السابقة بأحوال مشابهة – وليست متطابقة بالكامل بالضرورة- تجعلك تلقائيا تستنتج ما سيكون؟ هكذا يتعلم الإنسان كيفية التفاعل مع معطيات ومتغيرات الحياة سواء على مستوى حياته الشخصية أو على مستوى المجتمعات والعالم كله.. نحن إذن نتحدث عن التاريخ كعلم عملي وليس أحد العلوم النظرية كما يعتقد البعض.

هكذا التاريخ.. تجارب سابقة وخبرات حياتية إنسانية بعضها على مستوى الفرد والبعض الأكثر أهمية وخطورة على مستوى المجموعات البشرية من شعوب وأمم ودول وأنظمة.. تجتمع كل تلك الخبرات وتتناسق كقطع الفسيفساء أو لعبة البازل لتقدم لنا \”التاريخ\”، ويقوم المتخصصون في هذا العلم بتأمل هذه الصورة وتفكيك قطعها ودراسة تعاريج زواياها ومكونات موادها لإجابة أسئلة مثل \”كيف، متى، لماذا\” ليصلوا لإجابة السؤال الأهم\”إلى أين؟\”.

من هذا المنطلق يجب أن تكون النظرة العملية الواقعية للتاريخ، ليس كمجرد حكايات أو تواريخ وأرقام أو أحكام جاهزة سطحية، بل ككائن حي له احترامه، متصل بكل فرد منا بشكل قوي، مؤثر ومتأثر بالسلب والإيجاب.

هل تبدو الصورة أكثر وضوحا أمامك؟ أرجو أن أكون قد نجحت في ذلك.. فمن هنا، يبدأ حديثنا عن ذلك المظلوم الغامض في أعين الكثيرين، المهمش رغم أهميته: التاريخ.

(يتبع)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top