لكم دينكم ولي دين (٢٢)
\”انتحاري قام بتفجير نفسه قرب الحرم النبوي!\”.. فورا تزدحم وسائل التواصل الاجتماعي بالتساؤلات والتحليلات -وهل لدينا أكثر من المحللين؟- \”هو عمل دبره بعض الشيعة بالتأكيد!\” يؤكد أحدهم بثقة بالغة، فيرد عليه آخر مفندًا: \”ولكن الحرم النبوي به زوار منتمون للمذهب الشيعي.. \”بل هي مؤامرة خارجية لإشعال حرب طائفية\” يقولها ثانٍ فيكون الرد المتهكم \”حقًا؟ هل ترى أننا نفتقر إلى العنف الطائفي ليقرر أحدهم أن يقدم لنا فرصة لممارسته؟\” يؤكد آخر \”ربما هو مخطط من بعض الدول الإسلامية للتشكيك في قدرة السعودية على حماية الحرمين تمهيدًا للمطالبة بتدويل المناطق المقدسة\”.. هذا الأخير لم يكلف أحد خاطره بالرد عليه لسخافة الفكرة!
القاسم المشترك بين التحليلات، هو \”الدهشة\”.. ثمة تعليق كتبه الصديق الكاتب عمرو سكر يقول إن ما دام كل إرهابي يعتقد أن النبي قد أمره بممارسة إرهابه، فإننا في مشكلة حقيقية لأن علينا معرفة من أمر هذا المعتوه بتفجير نفسه في مرقد النبي نفسه؟!!
اتأمل كل هذا وأتراجع في مقعدي قائلًا بابتسامة مريرة: \”حقًا؟ هل ما زال في هذا العالم من هو قابل للاندهاش من أفعال المتطرفين؟!!\”
**********
مما تعلمت من الاشتغال بعلم التاريخ هو ألا أندهش مما قد تبلغه تصرفات المتطرفين جنونًا وخرقًا وتجاوزًا لكل الحدود المفهومة.. بالطبع فقد استغرقت وقتًا لا بأس به لأكتسب هذه \”الموهبة\”.. واحتجتُ أن أتعرض -خلال قراءة التاريخ- لعدد لا بأس به من الصدمات من الأفعال الجنونية من بني الإنسان.
بلى.. فحتى قيام إرهابي يؤمن في قرارة نفسه أنه حين يقتل ويروع ويخرب، فإنما ينصر الله ورسوله بتفجير نفسه في حرم هذا الرسول، هو فعل يجد لنفسه مبررات كثيرة عند أصحاب الفكر المتطرف العنيف.
وعلى أية حال، فليسمح لي القاريء أن أقدم له خمسة مشاهد من تاريخنا الإسلامي، لجرائم بشعة ارتكبها أناس يعتقدون أنهم ينصرون الدين بأفعالهم تلك.. لعله -القاريء العزيز المندهش- \”يُشفَى\” من داء الدهشة!
**********
المشهد الأول:
المدينة المنور، مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، مهجر المسلمين الأوائل وعاصمة الدولة النائشة، تشتعل بالفتنة وتتمخض عن الدم!
المتمردون المسلحون جاءوا من الشام والعراق ومصر، هتكوا حرمة المدينة المقدسة، استباحوا طرقاتها، روعوا أهلها، وها هم يحاصرون خليفة المسلمين عثمان بن عفان في بيته.. يقف بعض الصحابة وأبنائهم شاهرين السيوف عند باب البيت يحاولون رد المحاصِرين.. يصرخ بهم الصحابي عبدالله بن سلام أن المدينة محفوفة بالملائكة، فإن سفكوا فيها الدم رحلوا عنها.. ينذرهم أن أمر المسلمين الذي يستقيم بالدُرّة (كناية عن عصا عمر بن الخطاب والخلفاء عامة) إن دخل فيه السيف فلن يستقيم بعد ذلك إلا به.. يسبونه.. يهددونه.. يصيحون به: \”يا ابن اليهودية\”، معرضين بأصله اليهودي.. يحاول العقلاء إقناعهم بفك الحصار عن الخليفة.. يناشدونهم \”لا تقطعوا عن أهل الدار الماء والطعام.. عار عليكم! فإن الروم والفرس تأسر فتُطعِم وتسقي\”.. ولكن لا حياة لمن تنادي.
يحرق الغوغاء سقف الدار، يتسلق بعضهم جداره ليقتحم على عثمان غرفته، لا يقيمون حرمة لسابقته في الإسلام ولا حسن بلائه ولا صهره من رسول الله صلى الله عليه وسلم.. لا يوقرون لحيته البيضاء، بل يجرونه منها.. يلومهم الخليفة بحلمه المعهود فلا يزيدون إلا غيًا.. يمزقون جسده بسيوفهم ويهوى أحدهم بسيفه على يد زوجته فيبتر مقدم كفها وأصابعها.. يتحرش بها آخر.. يسيل الدم على المصحف الذي يذكر لصاحبه ثواب جمعه إياه.
عثمان.. ذو النورين.. صهر رسول الله وخليفة المسلمين.. المجاهد بماله ونفسه.. الحليم.. الذي تستحي منه الملائكة.. تمزقه سيوف بعض الغوغاء… يعلو تهليلهم وتكبيرهم وهم يشكرون الله أن خدموه بسفك دم الخليفة! ينعتونه بالكافر والمنافق والطاغية.. يرفعون سيوفهم عالية وقد ثملوا بنشوة الرضا عن أنفسهم أن \”نصرهم الله\” على عدوهم.. وعدوه!
**********
المشهد الثاني:
انتشروا في محيط الكوفة بلحاهم الثقيلة وجباههم المسودة من أثر السجود، وأعينهم الرامية بأسهم الاحتقار للدنيا والناس والعالم كله!
يحومون حول المسجد يتربصون بهدفهم حتى إذا صعد على المنبر شغبوا عليه وشوشوا على كلامه وصاحوا في وجهه \”الحكم لله يا عليّ!\”، فلا يكون رده إلا \”قول حقٍ يراد به باطل.. ونحن لا نمنعكم المساجد ولا حقكم في الفييء ولا حق هو لكم إلا أن ترفعوا علينا السيف!\” يطالبونه أن يقر بكفره حين قبل التحكيم بينه وبين خصمه معاوية بن أبي سفيان وأن يعلن التوبة ويسير بهم لقتال أهل الشام.. بلى… علي بن أبي طالب.. فارس الإسلام، أول من أسلم من الصبيان، الذي كان يومًا ثلث تعداد المسلمين.. في نظرهم كافر!
أخيرًا يقررون الرحيل عن الكوفة باعتبارها دارًا للكفر والفسق ومخالفة كتاب الله.. ينتقلون لبعض المناطق المحيطة بها.. وهناك يلتقي بعضهم رجلًا وزوجته يركبان حمارًا.. الرجل يعلق في عنقه مصحفًا…
يستوقفونهما.. يعرفون أنه عبدالله بن الصحابي خباب بن الأرت.. يسألونه عن رأيه فيما يجري فيقوله بصراحة وشجاعة: هي فتنة! يعلنهم أنه قرر اعتزال كل هذا الجنون.. يشيرون لمصحفه قائلين: \”إنا نرى في هذا قتلك\”، ثم يذبحونه.. تصيح امرأته فيذبحونها بدورها ويبقرون بطنها عن جنين كانت تحمله.. يرحلون وقد اطمئنت أنفسهم، لأنهم قد نفذوا شرع الله في هذين المارقين.. ولا ينسوا قبل رحيلهم أن يمروا على مزارع مسيحي ليعتذروا له عن قيامهم بقتل خنزير يرعى في أرضه ويقدمون له ترضية مالية مناسبة ثمنًا للخنزير، لأنه لا يحل لهم أن يعتدوا على مال أهل الذمة!
**********
المشهد الثالث:
نسائم الفجر تغسل النوم عن أعين الكوفة.. رجل ستيني قصير القامة متين البنيان متسع العينين لم ينقص صلعه وكرشه من وسامته يدلف إلى المسجد منبهًا النائمين أنه قد حان وقت صلاة الفجر.. ينظم الصفوف ويتقدمها للإمامة.
يلتمع النصل الحاد شاقًا الهواء بصفير حاد امتزج بصرخة هيستيرية من حامله \”الحكم لله يا علي لا لك ولا لأبيك\”.. ينتفض الحضور وهم يسمعون صوت جمجمة الإمام وهي تقرقع والدم يتفجر منها ليخضب لحيته.
يُحمَل المصاب العظيم إلى داره ويؤتى بالقاتل بين يديه.. ينظر له بعين تودع نور الحياة ويقول بين أنفاسه الأخيرة: \”أي هذا الرجل! ألم أحسن إليك؟\” يجيبه القاتل بثبات غريب \”بلى.. ولكني والله قد شحذت هذا السيف وسممته أربعين يومًا وأنا أدعو الله أن يقتل به شر خلقه\”.. ينال الإمام نصيبه الأخير من الدهشة لوقاحة الجواب، فلا يملك إلا أن يقول \”والله لا أراك إلا مقتولا به\”، ولا ينسى أن يوصي \”إن نجوت فشأني وإياه إن عفوت أو اقتصصت، وإن أنا مت فألحقوه بي ولا تمثلوه به\”.
يلفظ الإمام نفسه الأخير.. يرتاع آل بيته فلا يملكون أن ينفذوا وصيته.. يتقدم منه ابن أخي الإمام، فيقطع يديه ورجليه والقاتل لا يبالي، بل يقرأ القرآن ويسبح وهو معتقد أن ليس بينه وبين الجنة إلا ثوانٍ قليلة.. يسملون عيناه فلا يجزع.. ثم يجذبون لسانه لقطعه فيضطرب ويعلل ذلك بأنه لا يريد للسانه أن يتوقف عن ذكر الله!
يضعون السيف المخضب بدم عنقه المقطوع جانبًا وهم يتبادلون نظرات ذاهلة.. هذا مجرم ارتكب واحدة من أبشع جرائم العصر ومع ذلك فهو يرجو بها حسن لقاء الله له!
**********
المشهد الرابع:
رجل أربعيني مربوع القوام أغرق العرق وجهه المشرب بالحمرة وهو يحمل جثة طفل من آل بيته الكريم ذبحه سهم من العنق.. ينسال الدم الزكي بين يديه فيقذفه إلى أعلى وهو يصيح بملء فم تشققت شفتاه عطشًا: \”اللهم إني أشكو إليك ما يفعلون بأهل بيت نبيك!\”
تصك أذناه صرخة من جهة الخيام فيهرع مشرعًا سيفه.. فرسان يزيد يكرون على معسكره وتجاوزوا تحصيناته الساذجة.. يرمق حاجزًا من النار بناه حول خيام أهله وهو يسترجع صيحة متهكمة من بعض جند جيش يزيد بن معاوية \”يا حسين! استعجلت النار في الدنيا!\”
تختنق صرخة في حنجرته وهو يلحظ أخته زينب وقد داهمتها غيلان الطاغية وهي تحاول عبثًا ردهم عن خيمة الطفل المريض علي.. ابنه.. يستجمع آخر ذرة من قواه الذاوية ولكن ساقه تخذلانه فيسقط وهو ينظر سنان سيف يبرز من بدنه.. متى أدركوه؟ متى اخترقت سيوفهم ورماحهم جسده؟ يرفع عيناه كرة أخيرة إلى جهة الخيام حيث الأحبة المروعون بجحافل أتت تتقرب للحاكم بدم ابن بنت رسولهم! يقطع المشهد نصل حاد يلقي الرأس الشريف عن البدن الممزق.. ينفذ جنود يزيد الأوامر بدقة \”إن أدركتم الحسين فاقتلوه وإطرحوه أرضًا وأوطئوا جسده بخيولكم!\”
تصرخ أرض كربلاء بالنبأ الرهيب لتُسمِعَ جنبات الأرض نواحها.. تصرخ المدينة.. تهتز مكة.. تضطرب دمشق.. يعوي العراق.. بينما يتمطى البعض في مقاعدهم ويداعبون لحاهم قائلين: \”إنما قُتِلَ الحسين بشرع جده لخروجه على الحاكم!\”
**********
المشهد الخامس.. وليس الأخير:
أنفاسه كأنما تتردد عبر ثقب إبرة.. تمدد مسلم بن عقبة المرّي وقد أحاطه رجال جيشه المتوجه من المدينة إلى مكة لمداهمة المتمردون على يزيد بن معاوية كما فعل بأقرانهم في المدينة.
يسترجع وقائع الأيام الماضية.. \”يوم الحرة\” كما ستحمل كتب التاريخ هذا الاسم بعد ذلك.
أهل المدينة يتمردون على حكم بني أمية، يسبون يزيدًا ويدوسون بيعته بالأقدام.. يحاول من حضرهم من بني أمية ردهم عن ثورتهم فيحاصر الثوار الأمويون الذين يستغيثون بكبيرهم يزيد.
يرسل هذا الأخير جيشًا ويختار له مسلم بن عقبة قائدًا.. هذا رجل معروف بكراهيته الشديدة للقرشيين فهو الأنسب إذن لأداء المهمة.. يتقدم الجيش من محيط المدينة مرسلًا إنذارًا إلى ثوارها أن عودوا عن \”غيّكم\” وإلا… يردونه ردًا قبيحًا يليق به!
إذن.. وإلّا…
يجتاح الجيش التحصينات الهزيلة للمدينة الثائرة.. ينقلب الوضع فيتحول المحاصِرون إلى محاصَرين في منطقة \”الحرة\” -والحرة هي حجارة سوداء بركانية ببعض أنحاء المدينة- يضع فيهم الجند السيف ويديرون رحى القتل والانتهاك.. الدم يراق في الشوارع، البيوت، حتى محيط المسجد.. لا يرحمون حتى النساء فيحمل لنا كتاب التاريخ خبرًا أن ألف امرأة حملت من مغتصبها في هذا اليوم الملعون.. تعبث الأنصال بالأبدان والقائد يشد قامته على صهوة جواده.. الخونة.. الخوارج.. المفارقون للجماعة.. الخارجون على الحاكم.. المرتدون عن الصراط المستقيم.. فليقيّم السيف ما اعوج من أمرهم حتى يستقيموا إن كانت الدرة لم تجدِ نفعًا معهم.. هكذا يردد في قرارة نفسه.
أخيرًا.. يعلن الثوار استسلامهم، ولكن الضبع قد أسكره شبقه للدم.. يضع توقيعه بسيفه على الأعناق والصدور والأوصال.. أخيرًا بعد أن يسأم لعبته يلقيها كطفل نزق.. يقبل استسلامهم شريطة أن يعلنوا البيعة ليزيد لا كأحرار ولكن باعتبارهم عبيد له ولآل بيته!
يحمل مسلم بن عقبة حده وحديده متوجهًا إلى مكة وهو يمني النفس بمتعة مماثلة.. ولكن في الطريق يدهمه مرض الموت.. يرقد طريح فراشه ويجتمع رجاله حوله ليختاروا من يخلفه في القيادة.. يميل أحدهم نحوه سائلًا \”بم ترجو لقاء ربك؟\”، فيجيب وعلى وجهه المتغضن أعتى علامات الرضا عن النفس \”بيوم الحرة!\” ويزفر النفس الأخير وقد وقر في قلبه أنه ما كان يبتغي من هذه المذبحة إلا وجه ربه!
**********
كلهم صاحوا \”الله أكبر\” وهم يهجمون.. كلهم قالوا \”بسم الله\” وهم يذبحون.. كلهم كان يحسب نفسه يقيم شرع الله في عباده، ويدافع عن الدين.. كلهم لفظ أنفاسه وهو يتخيّل احتفاء الملائكة والنبيين والصديقين والشهداء به في السماء.. كلهم لم يختلفوا كثيرًا عن ذلك الذي فجّر نفسه في جوار مرقد سيد الخلق، في ثاني الحرمين الشريفين.
قد انقضى أوان الدهشة إذن، فقديمًا قالها الإمام علي عليه السلام: \”كلا.. بل هم في أصلاب الرجال.. وأرحام النساء\”
(يتبع)