مدينة واحدة.. وثلاثة رحالة ينتمون للقسم الغربي من الحضارة العربية الإسلامية، بينما تختلف أوقات زيارتهم لها.. فهذا ابن جبير (1144م – 1217م) يزورها في أول العصر الأيوبي خلال حكم السلطان صلاح الدين الأيوبي لمصر والشام والجزيرة، وهذا ابن بطوطة (1304م – 1377م) يمر بها في رحلته للحج في عهد السلطان الناصر محمد بن قلاوون – الفترة الذهبية للعصر المملوكي الأول- أما الحسن بن محمد الوزان المعروف ب\”ليون الأفريقي\” (1483م – ؟) فقد جاءها وهي- ومصر كلها- تودّع عصر المماليك وتستقبل حكما عثمانيا طويلا.
لم يفت كل منهم أن يدوّن مشاهداته وملاحظاته التي كانت من الدقة بحيث يشعر القاريء أنه قد انتقل بجسده إلى هذا الزمن، لم يفت أي منهم كذلك أن يسجل ملاحظاته في شكل جمل اعتراضية أو تعبيرات بلاغية أو تفسيرات لبعض الغوامض والأمور المُختَلَف عليها.
اتفقت كتاباتهم في بعض النقاط بحكم ما انتاب الأمور المتعلقة بها من ثبات عبر الزمن، واختلفوا في أمور أخرى بحكم تغير الزمان واختلاف الثقافات والتوجهات.
ابن جبير:
هو أبوالحسين محمد بن جبير الكناني الأندلسي البلنسي الشاطبي المولود في بلنسية سنة 1144م.. أخذه منذ حداثة السن الشغف بالعلوم الدينية والقرآن والأدب، مما أضفى على كتاباته نزعة تدينية يلاحظها من قرأ كتابه المعروف بـ \”رحلة ابن جبير\”.
وعن دافعه لرحلته الأولى (1183م) التي زار خلالها الأسكندرية تقول القصة الشائعة إنه كان يوما في حضرة أمير غرناطة – أبوسعيد بن عبدالمؤمن الموحدي- وكان قد استخدمه كاتبا وكاتما للسر- وكان الأمير يشرب الخمر فدعا ابن جبير لمشاركته الشراب، فأبى، فأقسم عليه الأمير وألزمه شرب سبعة أقداح، ثم كافأه بسبع أقداح مملوءة دنانير ذهبية، فقرر ابن جبير أن يكفّر عن ذنبه بأن يحج بها، فكانت الرحلة الأولى.
وبغض النظر عن تلك الرواية التي نراها أميّل للطرفة منها للواقعة الحقيقية، فإن ابن جبير قد وصل إلى الأسكندرية يوم الرابع والعشرين من فبراير 1183 بعد رحلة في البحر استمرت لثلاثين يومًا.
يبدأ ابن جبير حديثه بوصف معاملة موظفي المكوس (الجمارك) للمسافرين، فيسهب في الحديث عن صور التفتيش الدقيق والاستجواب المبالَغ فيه لهم جماعة وأفرادا، وما كان من هؤلاء الموظفون من تقليب في متاع الناس ومد للأيدي في أوساطهم وأرحالهم، واستحلاف لهم، أنهم لا يخفون مالا أو منقولًا، وما ترتب على هذه الاجراءات التعسفية من ضياع بعض ممتلكات هؤلاء المسافرين.. ثم يعرب صاحبنا عن دهشته وامتعاضه من قيام رجال المكوس بأخذ زكاة المال من المسافرين عنوة بغير سند شرعي وبغير سؤال عمّا إذا كان المال المأخوذ منه قد استوفى الحول لتجب عليه الزكاة أم لا.
ويبرّيء ابن جبير السلطان صلاح الدين الأيوبي من وزر ما جرى حيث يقول: \”وهذه لا محالة من الأمور الملبس فيها على السلطان الكبير المعروف بصلاح الدين، ولو علم بذلك على ما يؤثَر عنه من العدل وإيثار الرفق لأزال ذلك\”
وهذا التعليق هو مما يُظهِر ما يمكن أن نصفه بـ \”سذاجة التحليل\” التي كثيرا ما تغلب على أهل المبالغة في التديّن، حيث يفرطون في افتراض حسن النوايا فيمن يرون فيه التزاما دينيا أو اتجاها جهاديا، وكان صلاح الدين نموذجا للحاكم الذي يجمع بين الصفتين.
يحدثنا الرحالة بعد ذلك عن شوارع ومسالك وديار وأسواق الأسكندرية، فيبدو منه الانبهار باتساعها ودبيب الحياة فيها.. وإن مررنا بمثل تلك الملاحظات مرور الكرام خلال تجولنا بين كتابات كثير من الرحالة، فإننا لا نستطيع أن نفعل ذلك إذا كان المتحدث قادما من غرناطة الموحدين، الحافلة بالمباني والمنشئات المعمارية الفذة، فإن انبهار مثل هذا الرجل بعمارة مدينة الأسكندرية إنما هو يعني أنها في ذلك الزمان كانت تحفة معمارية حقيقية تستحق مثل تلك الملاحظة: \”إنّا ما شاهدنا بلدا أوسع مسالك منه ولا أعلى مبنى ولا أعتق ولا أحفل منه، وأسواقه في نهاية من الاحتفال أيضا\”
ثم يتحدث ابن جبير عمّا شاهد من الآثار القديمة للمدينة، فيذكر الفنار ويسهب في وصف اتساعه وطوله ذاكرا، أن به مسجدا يتبرك به الناس- يزوره ويصلون فيه – ثم يذكر \”سواري الرخام\”- الأعمدة كعامود السواري وغيره -والتي ينقل لنا تفسيرا لوجودها أنها كانت أجزاء من مبان مخصصة للفلاسفة القدامى.. وينتقل لذكر المساجد فنرى مبالغة في الرقم الذي قدّره لها وهو بين ثمانية آلاف وإثنا عشر ألف مسجد، وهو بالتأكيد رقم غير منطقي فالمدينة –آنذاك – كانت لتضيق عن هذا العدد من المساجد التي تزيد عن الحاجة الفعلية لأهل الأسكندرية.
ولا ينسى صاحبنا أن يختم حديثه عن الأسكندرية بامتداح كثرة مدارسه ومساكن أهل السبيل من الحجاج وطلبة العلم به، وذكر ما يُجري عليهم من جرايات خبز وأموال وما أعد لهم من مارستانات (مستشفيات) وحمامات وما جعل لهم من أوقاف.. ويجعل فضل كل ذلك للسلطان صلاح الدين بشكل يُظهِر إعجابه الشخصي به للأسباب سالفة الذكر.
ابن بطوطة:
أما ابن بطوطة الفقيه والقاضي والأديب المنحدر من أسرة من القضاة، فقد ذهب به ميله إلى الترحال إلى الخروج في رحلة للحج سنة 1325م، ليمر بمصر ويطوف ببلدانها خلال فترة توقفه فيها، ويصل إلى الأسكندرية ليسجل عنها وصفًا بدأه بذكر مختصر لأبوابها الأربعة ومينائها الضخم، ثم حديثً أكثر استفاضة عن الفنار الذي كان قطاع كبير منه قد تهدّم، وعامود السواري الذي بلغت رحالتنا قصة عن صعود رجل إلى قمته، فلا يكتفي بذكرها وإنما يحاول تقديم تفسير عملي لها.
وبينما يختصر ابن بطوطة الحديث عن مباني ومنشئات المدينة، يستفيض في الحديث عن أبرز علمائها وقضاتها وأولياءها، فيذكر أسماء بعضهم وقصصا عن كرامات لهم، كقصة القاضي الذي أتاها شابا، فسخر منه بعض حراس أحد أبوابها قائلًا: \”ادخل يا قاضي\”، فتمسك الشاب بالفأل حتى صار أبرز قضاتها وأحد أطولهم مدة في تولي القضاء بها.. ويذكر كذلك قصة أحد الأولياء الذي تُحكَى عنه رؤيته الرسول – صلى الله عليه وسلم- في المنام يأمره بزيارته، فيسافر إلى المدينة وينام في المسجد، ثم يستيقظ ليجد زادا وتمرا أمامه، ثم يلقاه ابن بطوطة فينبئه هذا الوليّ مسبقا بخط سيره إلى الحجاز، ويحمّله السلام لبعض مشايخ الهند والصين ممن يُعرَفون بالولاية.
ويثني بعد ذلك بنقل رواية عن الشيخ ياقوت الحبشي المعروف باسم \”ياقوت العرش\” أو \”ياقوت العرشي\”، حيث التقاه ابن بطوطة فقص عليه الشيخ ما كان من تنبوء الشيخ أبي الحسن الشاذلي بموضع موته، وينقل عنه \”حزب البحر\”.. أي دعاء ركوب البحر.
ويختم ابن بطوطة حديثه عن الإسكندرية بذكر واقعة مشاجرة دامية بين بعض التجار من المصريين والأوروبيين انحاز خلالها والي المدينة للطرف الأجنبي، ووقعت خلالها مقتلة في حق التجار المصريين، ويبدو جليا في حديث الرحالة المغربي انحيازه للطرف المصري وإدانته لما كان من الوالي وأعوان السلطان.
ليون الأفريقي:
أما الحسن بن محمد الوزّان – والمعروف باسم ليون الأفريقي- فهو الشخصية الأكثر إثارة للتأمل بين هؤلاء الرحالة الثلاثة، بل وبين كل الرحالة العرب.. حتى أن الأديب والمفكر اللبناني أمين معلوف قد خلّد قصة حياته في عمل أدبي مميز هو رواية \”ليون الأفريقي\”
فهذا الرجل الذي سجّل رحلته في كتاب وضعه باللغتين العربية والإيطالية، حمل اسم \”وصف أفريقيا\”، انحدر من أسرة تميل أكثر الروايات للقول بإنها تنحدر من قبيلة زناتة المغربية، وقد شهد في طفولته الحدث الأكثر ضخامة في عصره وهو سقوط غرناطة في أيدي الإسبان سنة 1492م، ثم انتقل مع أهله إلى مدينة فاس المغربية لينشأ مثقفا مطلعا، مما دفع حاكم المدينة لتعيينه سفيرا له بالخارج.. ليطوف بأنحاء أفريقيا ويصل إلى مصر شاهدا حدثا بارزا آخر هو سقوط إمبراطورية المماليك ودخول سليم الأول العثماني مصر.. ولا تتوقف الإثارة في حياة هذا الرجل عند هذا الحد، بل يتعرض خلال رحلة بحرية للأسر ليُقَدَم هدية إلى البابا ليون العاشر الذي أعجِب بثقافته، فقام بتعميده للكاثوليكية وقرّبه منه وجعله معلما للغة العربية لبعض رجال الكنيسة في روما، التي بقي بها حتى اختفى منها في ظروف وتقلبات غامضة يرجح بعض الباحثين أنها انتهت بهربه إلى تونس وعودته إلى دينه ووفاته في تاريخ مجهول.
ويدوّن ليون الأفريقي عن الأسكندرية التي وصلها سفيرا من حاكم فاس إلى السلطان سليم الأول، وصفا هو واحد من أكثر ما كُتِبَ عن المدينة دقة ورصانة في زمانه.
يبدأ رحالتنا حديثه بذكر نبذة عن إنشاء المدينة على يد الإسكندر المقدوني، ويقع فيما شاع – وما هو شائع بين البعض حتى الآن- من خلط بين شخص الإسكندر وشخص ذي القرنين المذكور في القرآن الكريم، وكذلك نبذة عن تاريخها يحاول خلالها تقديم تفسير لتراجُع أهميتها بعد الفتح العربي، ثم عودتها إلى مكانتها القديمة من أن بعض الخلفاء أمر بنشر أحاديث مكذوبة عن النبي صلى الله عليه وسلم تتحدث عن المكانة الدينية والجهادية للأسكندرية.
يقدم بعد ذلك وصفًا هندسيا للمدينة وأسوارها وعمارتها، ثم ينتقل للحديث عن مينائها، ويتكرر فيما كتب – ولكن بشكل أكثر اختصارا- ما جاء في ملاحظات سالفة لابن جبير عن إجراءات التفتيش الدقيقة من رجال الجمارك في الميناء للمسافرين.
ثم يتحدث بعدها عن السفن الراسية بالميناء، ذاكرا بدقة انتماءاتها، ليعطي للقاريء فكرة عن علاقات مصر آنذاك بالدول الأوروبية بالذات الجمهوريات الإيطالية.
ويخلط ليون الأفريقي في حديثه بين كل من فنار الأسكندرية وعامود السواري، حيث يذكر أن العامود قد بناه فيلسوف سكندري لحماية المدينة ووضع أعلاه مرآة عملاقة تُسَلَط على السفن الغازية، فتعكس أشعة الشمس وتحرق تلك السفن، وأنها كانت تُستَخدَم حتى احتال يهودي لإتلافها بفركها بالثوم.. وربما يعود ذلك الخلط لأن الفنار الأصلي كان قد تهدم قبل زمن طويل من زيارته للمدينة بفعل الزلازل، ولكون عامود السواري كان من الآثار المثيرة للفضول بين الرحالة والمؤرخين، فحاول الرجل أن يضع تفسيرا منطقيا يشبع به فضوله.. ويذكر في مجمل حديثه ذكرا مختصرا لواقعة قيام بعض التجار الإيطاليين بسرقة رفات القديس مرقص – سان مارك- ونقلها إلى إيطاليا.
ويتميز ما كتب ليون الأفريقي عن الأسكندرية بتطرقه للحديث عن بعض الفئات السكانية كالمسيحيين اليعاقبة – الأرثوزكس- والمزارعين الفقراء الذين يسكنون منطقة أبوقير.. ولا يفوته أن يقدم نبذة عن موارد المدينة ومصادر دخلها.
ختاما:
ثلاثة رحالة.. ثلاثة أزمنة.. تميزت كتابات كل منهم عن الآخر بتأثيرات نشأته وتوجهه الفكري، ففي كتابات ابن جبير نلاحظ غلبة النزعة الدينية، والتي كانت مما تميز به عصره خلال واحدة من أقسى فترات الحروب الصليبية.. تلك الفترة التي انتابت العالم خلالها حالة هي مزيج من التعصب الديني والتحفز للآخر، انعكست على أمرين يلاحظهما القاريء لكتابه: الأول هو تحيّزه للسلطان صلاح الدين الأيوبي إلى حد تنزيهه عن الأخطاء والعيوب الطبيعية وتبريره إياها بانعدام علمه بما يفعل بعض عمّاله لانشغاله بالجهاد، فهو يتجنب أن يُقدِم على أي انتقاد لرجل يعتبره زعيما للجهاد الإسلامي ضد \”أعداء الدين والأمة\”.
الأمر الآخر هو انهاؤه لحديثه عن كل مدينة، إما بالدعاء لها إن كانت من \”مدن دار الإسلام\”، أو الدعاء باسترداد المسلمين لها إن كانت من المدن التي يحتلها الفرنجة، أو الدعاء بخرابها وإبادتها إن كانت مما يُصَنَف – آنذاك- بـ \”دار الكفر\”، أي لكونها من مدن غير المسلمين.
وهذا أمر منطقي من رجل نشأ في ظل دولة الموحدين التي تعتبر تاريخيا \”دولة مُحارِبة\” ضد المعسكر الأوروبي الكاثوليكي، وترعرع في ظل أسرة تشتغل بالعلوم الشرعية، وسافر إلى المشرق في ظل حرب عالمية تحمل -ولو ظاهريا – شعار الصراع الديني الإسلامي المسيحي.
وأما ابن بطوطة فقد انعكس تخصصه العلمي في الفقه والقضاء على تخصيصه جزء كبير مما كتب للحديث عن العلماء والفقهاء والقضاة، وانعكس كذلك على اهتمامهم بمقابلتهم، بل وعلى اشتغاله بالقضاء في بعض البلدان التي استقر بها لبعض الوقت.
كذلك فإن نشأته المغربية في بيئة تعظم الأولياء والصالحين – وهو أمر قائم حتى الآن- قد أثرت في كتابته، من حيث اعتنائه بمقابلة الزهاد وشيوخ الصوفية ومن اشتهروا بالصلاح وأنهم من \”الأولياء أصحاب الكرامات\”، وعنايته بذكر كراماتهم ونبذات من سيرهم ومأثوراتهم في مختلف البلاد التي توقف بها.
أما عن كتابات ليون الأفريقي، فإن طبيعته كرجل مجرب مشتغل بعمل ذي صفة سياسية هو السفارة، وتنقله بين أكثر من بيئة وثقافة، قضى في ظل كل منها فترة لا بأس بها، فقد انعكس كل ذلك على أسلوبه فيما يمكن أن نصفه -ببعض التحفظ – بالرصانة العلمية والاتسام بالموضوعية.
هذا فضلا عن أن وضعه كتاب \”وصف أفريقيا\” خلال حياته في إيطاليا وإدراكه أنه يخاطب قارئا غربيا عن البيئة والبلاد التي يصفها، قد انعكس على اعتنائه بأسلوب عرض المعلومة بحيث يُشبِع فضول هذا القاريء ويقدم له وصفا دقيقا وافيا يرضي رغبته في الاطلاع على \”الآخر الواقع جنوب أوروبا\”.
على القاريء في كتابات الرحالة أن يراعي الخلفية الثقافية للكاتب، وظروف وضعه لمصنفه، والاتجاه العام السائد في زمانه وبيئته. عليه كذلك خلال قراءته تدوينات هؤلاء الرحالة أن يجتهد في وضع نفسه مواضعهم، وأن يكون على علم مسبق بالقدر الكافي من المعلومات عن الفترات التاريخية التي وُجِدوا خلالها، والدول التي عاشوا في ظلها، وأبرز الأحداث التي عاصروها، فهذا – بحق – مما يساعده في الانتقال بالقراءة في كتاباتهم من مجرد \”قراءة مسلية لأدب الرحلات\” إلى ما هو أكثر إفادة له، وهو المعايشة المعنوية لتجربة إنسانية وحضارية مميَزة.. فيكون قد حقق بذلك الغرض الذي بذل لأجله هؤلاء الرحالة الجهد والوقت لتقديم أعمالهم للإنسانية.