(م.ط) سيدة ضخمة الهيئة، من أسرة فقيرة، بالكاد أكملت تعليمها وحصلت على دبلوم التجارة، تقف في مطبخها المتواضع وهي ترتدي جلابية فيسكوز ملونة مرحرحة، تتحدث عن الفرق بين البصلة المتحمرة والمحروقة، فقاطعتها قائلة: “وحَشك؟”
ابتسمت ابتسامة حزن وهي تنظر لي، فأنا أعلم جيداً كيف ترتسم ملامحها حزناً، ثم التفتت ونظرت للناحية الأخرى، وأكملت حديثها عن البصلة “المحروقة”.
كنت في المرحلة الإعدادية عندما تزوجت (م.ط) أو كما كانت تحب أن تطلق على نفسها “عروس٢٠٠٠”.
كانت صاحبة وجه جميل وملامح حادة مميزة، وعلى الرغم من وزنها الزائد كانت دائماً تطلع الدعابات وتسخر من وزنها متقبلة النقد والضحكات منا وممن حولها بصدر رحب٬ كنا دائماً نسخر من أصحاب الشفايف الغليظة والأجسام المنحوتة والصدور الممتلئة، فقد كان جسدها كله ممتلئا إلا تلك المنطقة بالذات، ونحمد الله على الزبدة الفلاحي والعسل والفطير والبط المحمر والكسكسي، كانت متصالحة مع نفسها.
الكل كان يعلم أنها لن تستطيع الإنجاب -حتى هو- من قبل أن يتزوجها، وهو يعلم أنه بنسبة كبيرة لن تستطيع الإنجاب، حاولت مراراً وتكراراً، من الأطباء وصولاً إلى المشايخ والعطارين، لكن الأمر “طبياً” مستحيل.
كنا نتحسس الحديث عن الأطفال والخلفة وغيرها من الأشياء أمامها٬ حتى دعابات الجسد المنحوت والشفايف الغليظة لم تعد تضحكها بعد الآن، شعرت أنها ولأول مرة تدرك بأن هناك خطب ما فيها، خطب لم يعد يضحك بعد الآن، شيء مؤلم لا يمكن تغييره.
أعتقد آن أوان الحديث عن زوجها، هل هو رجل سمين لا يهتم بنفسه وبكرش؟! أصلع؟ مطلق ولديه أطفال فيختار سيدة لا تنجب لتربي أطفاله، وبالمرة يعاشرها معاشرة الأزواج؟
في الحقيقة الأمر كان مختلفاً هذه المرة عن الدارج في الأفلام، (م.ش) يكبرها ببضع شهور فقط، وسيم، يهتم بنفسه وبوزنه بشكل جيد وملحوظ، طويل القامة، تستطيع أن تميز رائحته الزكية من على بعد أمتار.
أحبها بشدة، غيرة مجنونة ومشاعر ملتهبة ظلت لسنوات، يلاحظها الغريب قبل القريب، هدايا متواضعة ولفتات رومانسية يحسدهم عليها الجميع ممن يحظون بحياة زوجية جافة أو “عادية”.
نعم.. لقد كان مختلفاً تماماً عن الصورة المعتادة للزوج الذي يقبل أن يعيش مع امرأة عاقر، أو هكذا أوهمونا ورسموا في مخيلتنا صورة من يرضى بهذا الوضع، بأنه لابد وأن يكون رجلا “ناقصا” ليقبل “بالنقص”.
بطبيعة الحال تعلمون أن تلك السيناريوهات الوردية لا تستمر كثيرًا، وأسطورة النهايات السعيدة تحدث فقط \”لما المخرج بيعوز كده\”، أو عندما يقرر أحدهم أن ينهي العمل الفني عند تلك اللحظة تحديدًا، ويلم حاجته ويطلع يجري هرباً من الحقيقة الخازوقية التي تعتري حياتنا من حين إلى آخر.
استمراره معها على الرغم من كونها \”عاقر\” حظى باستحسان ومباركة من العائلة والأصدقاء والجيران وكل من يعرفهم.
“كتر خيره راجل أصيل”
“اللي زيه المفروض يتعمله تمثال والله”
“ربنا يعوضه في الجنة إن شاء الله”
كل ذلك جعل منه رجلا مختلفا، لم يتركها، لكنه لم يعد نفس الرجل الذي عهدته من قبل، كل هذه العبارات الرنانة البطولية اكسبته نوعاً من الحصانة ضد أي إنتهاكات قد تصدر منه.. “كتر خيره” كانت تذكرته الذهبية ليفعل أي شيء وكل شيء.
هذه العبارات كان لها تأثير عليها أيضاً، فظلت تشعر بالامتنان إلى الأبد. “كتر خيره” كانت بمثابة صك الغفران ورصيد لا ينضب لتخطي أخطائه.
مع مرور الوقت كان هناك طرف يزداد قوة، وآخر يزداد ضعفا، هناك طرف يخون ويكذب، وآخر يقول: “كتر خيره”.
لم استوعب ما يحدث، ولماذا لم تتركه على الرغم من خيانته “المتكررة” لها، حتى سمعتها تحكي عما حدث، وهي تلقي باللوم على نفسها في كل شيء! وكأنها هي السبب في كل ما حدث!
لم يكسرها كونها \”عاقر\” أو إمرأة بدينة، أو حتى ثقافتها المحدودة، لقد كسرتها جملة واحدة صنعت من زوجها بطلاً زائفاً أحمق.. “كتر خيره”.
هناك العديد من تفسيرات علماء النفس لمثل هذه الظواهر، ولكن ظاهرها يفسرها دون الحاجة للدخول في تفاصيل أكاديمية مرهقة، لقد أراد أن يرحل منذ اللحظة الأولى التي علم فيها أنها لن تنجب، غرته العبارات البطولية وابتسامة الخضوع على وجهها، واستغل كل هذا لكي يخون وهو مرتاح الضمير تحت شعار “كتر خيري”.. ظل يصارع فكرة الرحيل بالخيانة.
أما هي فكانت تخشى أن تصبح مطلقة، أنتم تعلمون جيدًا أسباب ودوافع هذا الخوف، كانت تخاف، وخوفها جعلها تقنع نفسها بأن الخطأ خطؤها، بأنه “كتر خيره” دائماً وأبداً.. ظلت تداوي الجرح بالخوف حتى انكسرت.