(حكايات القاهرة)
كلما مررت بسوق التوفيقية، تخيلته خارجا بثيابه الحربية.
ساحكي حكايته مع السوق بعد قليل، والسوق نفسه حكاية تشبه الانهيارات الكبرى، فمن متعة وجود الفاكهة خارج موسمها، زحفت قطع الغيار الصينية مصاحبة لتزايد نفوذ تاجر المخدرات الذي ابتلع المنطقة كلها.
أما الخارج ببدلته الحربية، فلا اذكره إلا في لحظات الكوابيس الغامضة، فهو رمز كبير لكيانات خارج التاريخ وتختبيء في مكان ما من أجل لحظة حاسمة يأكلوننا فيها ويأكلون المدينة والبلد كلها.
هم منافسون لكيانات أخرى تعمل بنوع من الحرية، لأن مهمتها لا تتطلب غضاضة مفرطة.. التوفيقية إذن أرض المعركة أو المختبر الذي انسحب منه الخارج ببدلته الحربية أو الحامل ميكرفونه ليطردنا جميعا من المدينة.
فانتازيا تسيطر، مصاحبة لنبرة العودة إلى دور الأزهر في إحداث التوازن وملأ الفراغ الذي تركه الإسلاميون.
الدين بالنسبة للجميع عنصر سيطرة / إعلان سلطة / ولابد لأحد أو مؤسسة أو جماعة تلعب الدور أو تكمل الشرعية الناقصة / فالحاكم الذي يتولى بلانتخاب تنقصه دائما شرعية السماء / الله / الدين، لأننا لم نفطم بعد من “الخلافة”، حيث تجتمع الدنيا والدين في “تأسيس الشرعية”، ولهذا فإنه عندما يفشل المولع بالسلطة في إشباع الولع بالكلام السياسي، فإنه يلهث إلى الدين/ لهاث المدمن العجول المنتظر للنشوة.
وفي سباق السلطة، فإن الأزهر لابد أن يبزغ دوره من جديد في مواجهة اتهامات الإخوان ومناصريهم، بأن السيسي ونظامه “جزء من الحرب على الإسلام”، كما أنه لابد من تركيب ساق ”الشرعية الدينية” لتكتمل عناصر مؤسسات السيطرة.
المهم أن الأزهر عاد تحت شعار “الإسلام المعتدل”، ليكون في طليعة القرارات الرئاسية لجان إصلاح للتشريع والتعليم والإعلام، تشارك فيه المؤسسة الازهرية – التي حسب قانونها مؤسسة بحث علمي.. مهمتها مراجعة كتب الفكر الديني- لكنها الآن تلعب دورها كسند ديني للسلطة الجديدة.
وهنا يظهر صاحب البدلة الحربية مختفيا داخل قلعة ”الاعتدال“، ومن خلال موقع متقدم يدبج فيه خطابا كاملا، فشل في إكماله زمن الإخوان، كعضو في لجنة الدستور وغيرها من لجان إعادة بناء الدولة على “طبخة كراهية“ باسم “الصحوة الإسلامية“.
وبالفعل الدكتور محمد عمارة مازال كما هو رئيس تحرير مجلة الأزهر قلعة الوسطية والاعتدال – وهو المشهور بخطابه العنيف، الذي إذا حذفت كلمة \”الإسلام\” من بين كلماته ستتصور على الفور أنه يقرأ بيانا للحزب النازي، أو يلقي واحدة من فرامانات مدير إصلاحية الأحداث.
اتذكر الآن حادثة كان بطلها الدكتور عمارة عندما كان عضو مجمع البحوث الإسلامية، وأعد بحثا عن كتاب للدكتور نصر حامد أبو زيد، هو \”الخطاب والتأويل\”، أوصى فيه بمنع تداول الكتاب، لأنه \”يشكك في ثابتين من ثوابت العقيدة\”، وهذا يعني – حكما – التكفير ومنع دخول الكتاب مصر، وطبعا لم يناقشه أحد من المجمع، ولم يعترض حتى شيخ الأزهر. اعتمدوا بحثه رغم أن أحدا منهم لو بذل جهدا قليلا، وقلب صفحات الكتاب لاكتشف بسهولة أن هناك فصلاً كاملاً يفضح فيه أسلوب الدكتور محمد عمارة في اللعب بقناع المعرفة، ليمرر أفكاره الأيديولوجية.
يستخدم عمارة نفس أسلوب \”مباحث الأفكار\” من عصور الإنحطاط في التاريخ الإسلامي، إلى محاكم التفتيش في أوروبا، وحتى المكارثية في أمريكا.
يتهم بدلا من أن يناقش، ويتحدث \”باسم فكرة مقدسة\” ليحسم الخلاف لصالحه.. يحتكر الحقيقة المطلقة، ويرى في نفسه سلطة \”معرفية\” تصدر أحكامها وترسم المسار والمصير.. يتخلى فورا عن ثوب الباحث.. القلق إزاء ما يعرفه.. المكتشف للحقائق الجديدة، ويرتدي عباءة المفتشين، وهي لعبة ركيكة جدا.
عبر البريد الإلكتروني وصلني يومها تعليقا مكثفا من نصر حامد أبو زيد يقول: \”عزيزي…. كل عام وأنت بخير.. من العبث وإضاعة الوقت الانشغال بمثل هذه المواقف الركيكة في عصر السماوات المفتوحة والإنترنت، لو قرأت الكتاب.. الفصل الثالث على وجه التحديد \”موقف محمد عمارة من علي عبد الرازق: غلبة الإيديولوجي على المعرفي (ص: 105\”، لعرفت السبب، وإذا عرف السبب بطل العجب.
تحياتي.. نصر أبوزيد\”
وكانت مناسبة لاكتشاف لعبة محمد عمارة، الذي يعتبرونه في التيار الإسلامي أنه يكتسح خصومه، وبالفعل يمكن أن تجده في الفضائيات يتحدث بمنطق مخيف.. يصدر الأحكام ويوزع الاتهامات ويمنح صكوك الغفران.. إنه \”زعيم\” بلغة أهل السياسة، و\”فتوة\” بلغة الشارع، كما كان – تقريبا- وهو في تنظيمات الماركسيين السرية.
الأديب إبراهيم أصلان حكى بطريقته الساخرة عن الليلة التي أراد بها أصدقاء من عتاة الماركسيين أن يقدموا له هدية.. وعدوه بلقاء \”شخص خطير\” في التنظيم.. إبراهيم أعجبته الإثارة، وتحرك فضوله للمقابلة، فقالوا له: \”سنطلب موعدا\”.. في الموعد اكتشف أن الأمر ليس بسيطاً.. شعر بالرعب والأصدقاء يحكون له عن تأمين منطقة التوفيقية التي سيتم فيها اللقاء، وشعر وهو يتحرك في الشوارع الضيقة أنه تحت المراقبة، واختلط الرعب بالإثارة، وانتظر بشغف ليعرف من هو \”الخطير\”، ولم يكن سوى محمد عمارة.. \”زعيم مهم\”.. كل ملامحه تشي بالخطورة والجدية الفاخرة.. يتكلم قليلا، وينظر بعيدا، وفي كلامه تعليمات، حتى وهو يعرض أفكاره.
لم يضحك ابراهيم أصلان وقتها – في الستينيات- بل بعدها بسنوات، وهو يحكي لي الواقعة، بينما أصبح \”الزعيم الخطير\” يحمل لقب \”دكتور\” في الفلسفة الإسلامية ويرتدي عباءة ريفية على بدلة من موديل السبعينيات، ويظهر في الفضائيات باعتباره مرجعاً إسلامياً، وشيخاً لا ترد له فتوى! الشيء الأساسي الذي لم يتغير، هو لغته الخطابية وطريقته في تقسيم العالم إلى قسمين: \”معنا\” و\”علينا\”.. أو بالمصطلحات الجديدة: \”معسكر الخير\” و\”معسكر الشر\”، وهي مصطلحات يحبها ويتحرك بها كل من بوش وبن لادن.
بهذه الطريقة تكتسب كتابات الدكتور محمد عمارة حضوراً في مراحله المختلفة، لأنها تعتمد على مداعبة الرأي العام، وضبط الأفكار على موجات \”ما يطلبه المستمعون\”.. يسرق الكاميرا والميكرفون بخطاب زاعق، حماسي، لا يدعو للتفكير، بل إلى الحشد على طريقة مشجعى مباريات كرة القدم، وهذا ما اكتشفه نصر أبوزيد تقريباً.
يقول نصر: \”في بداية السبعينيات كان خطاب محمد عمارة ينطلق من أهم المرتكزات العقلانية المستنيرة في التراث العربي الإسلامي، وأهمها إنجازات المعتزلة، لذلك كان حريصاً على نشر تراث التنوير العربي الحديث، والمصري منه بصفة خاصة، فأسدى للمكتبة العربية خدمة جليلة بنشر الاعمال الكاملة لرواد النهضة والتنوير والتحديث من رفاعة الطهطاوى ومحمد عبده وجمال الدين الأفغاني حتى علي عبد الرازق\”.
هذا الوقت كان اول خيوط الانتقال من شعبية خطاب القومية العربية الذى روجت له اجهزة الدعاية في دول الجنرالات.. كان الموديل القومي في عز صعوده يحتاج إلى شعرة من اليسار، فظهر اختراع: الاشتراكية العربية، وإلى شعرة أخرى من اليمين، فظهرت: العروبة والإسلام، ومع كل شعرة كان لابد من ركاب الموجات و\”ترزية\” أفكار يلفقون، ويرقعون، ويخرجون بالموديل على ذوق الجنرال الحاكم.
لكن بعد هزيمة حزيران/ يونيو 1967 انحسرت نجومية الجنرالات، وأصيب الموديل القومجي بمقتل، وكنوع من رد الفعل، بحث الشطار عن دواء للجروح القومية في الإسلام.. كان الزمن مفتوحاً والهزيمة لم تتمكن بعد من العقول والأرواح.
البداية كانت مع اكتشاف ما يسمى بالتراث العقلاني المستنير في الفكر الإسلامي، ولهذا لم يكن غريباً أن ينشر الدكتور محمد عمارة كتاب علي عبد الرازق \”الإسلام وأصول الحكم\” أولاً في مجلة الطليعة عام1971، وهي مجلة اقتطعت من جسد مؤسسته العاتية \”الأهرام\” ليستوعب اليسار. ثم ينشره كاملا (1972) مع دراسة وافية للظروف والملابسات التي احاطت بنشره عام 1925 مزودا بالوثائق الاساسية.. وذلك في \”المؤسسة العربية للدراسات والنشر\” في بيروت. وهي مؤسسة ذات هوى قومي – كما يبدو من اسمها وقائمة اصداراتها- عمارة في 1972 كان في صف علي عبد الرازق.
نصر أبو زيد يعلق هنا بأنه: \”لا شك أن وضع الكتاب في سياق حركة الإصلاح الديني التي بدأها محمد عبده، بل واعتباره وجهاً متطوراً لهذه الحركة، حكم إيجابي لا شك فيه.. \”كما أن \”تحليل عمارة للسياق السياسي الذي صدر فيه الكتاب، وحدد لكل قوة من القوى السياسية طبيعة الاستجابة لهذا الكتاب ومؤلفه، تحليل يكشف عن انحياز عمارة لموقف الكتاب ومؤيديه ضد الذين هاجموه.\”
وها هو محمد عمارة يقول إن دافعه في اعادة نشر الكتاب هو أن: \”نصل الحاضر الذي نعيشه والمستقبل المأمول بأكثر هذه الصفات إشراقاً وأعظمها غنى، ونتعلم الشيء الكثير من شجاعة هؤلاء الذين اجتهدوا وقالوا ما كانوا يعتقدونه صواباً، هذا الذي قالوه خطأ دونما رهبة من الذات المصونة التي تربعت على العرش في بلادنا قبل يوليو 1952\”.
ماذا حدث لكي يتراجع محمد عمارة نفسه بعد 22 عاما عن رأيه الإيجابي في الكتاب؟! ليس هذا فقط، بل إنه وجه إلى الكتاب ومؤلفه قذائف الاتهامات، وقال في مقالاته بصحيفة \”الشعب\” عام 1994 إن الكتاب يخدم اهداف الاستعمار الغربي في محاولته للقضاء على الخلافة سعياً إلى \”علمنة\” (المجتمعات الإسلامية)، والحقيقة هي العكس طبعاً، فقد كان هناك تحالف بين الإنجليز والسراي، لكي يتم تنصيب الملك أحمد فؤاد خليفة للمسلمين بعد قرار (أتاتورك بإلغاء الخلافة)، وهذا انقلاب فكري ينحاز فيه محمد عمارة إلى فريق التحالف بين السلطان و(الاستعمار) ضد الشيخ المتمرد على مؤسسته الراكدة.
محمد عمارة، كان تلبية لحاجة إلى\”دعاة\” يقدرون على المنافسة في عصر التليفزيون.. أي يتمتعون بمواصفات تليفزيونية.. يعرفون اتجاه الكاميرا ويتحركون حسب حركتها، ولديهم حساسية خاصة تلتقط الإيقاع الذي يحتاجه التليفزيون ليصل إلى جمهور مسترخٍ في البيوت، بما يعنى ذلك اعتماد المبالغة والانفعال المقصود به التأثير والافتعال في الحركة ونبرة الصوت، وهؤلاء \”الدعاة\” السياسيون للتيار \”الإسلامي\” يحتاجون إلى جمهور محبط ومهزوم فاقد الحماس ولا يصدق أياً من التيارات التي لم تقدم جديدا ولا أياً من الأحلام السياسية المهزومة في كل التاريخ الحديث.
ركب عمارة موجة الإحباط السياسي، واختصر مهاراته في ندب الواقع. احتقار كل منجزات الإنسان، وتلويث كل المخالفين له بتحويل أفكارهم إلى تهم، ولم تعد العلمانية والاشتراكية والليبرالية أفكارا أو اجتهادات بشرية، بل \”مؤامرات استعمارية\” أو \”خروجاً عن العقيدة\”، أو\”كفراً وإلحاداً\”.
واحب محمد عمارة لعبة مفتش البوليس.. يطارد كل من يكتب ليبحث في عقيدته بدلا من مناقشة أفكاره، وهذا ما جعله يعلن في مقالات الشعب (1994) اكتشافه المذهل بأن \”طه حسين هو الذي كتب \”الإسلام وأصول الحكم\”، ووضع اسم الشيخ علي عبد الرازق عليه، وهذا ما يفعله الإخراج ببدلته الحربية من قلعة الاعتدال والوسطية.. إنه في معامل تحضير العقل الجاهز ليحمل الراية من “داعش”
من #حكايات_القاهرة