مرة أخرى يتلقى مروجو أسطورة سياسات الاستقلال الوطني الاقتصادية بعد 30 يونيو صفعة قاسية بإعلان الحكومة عن طرح حصص من الشركات والبنوك الحكومية \”الناجحة\” في البورصة المصرية خلال الفترة المقبلة. الخطوة تلقت دعماً غير مسبوق من الرئاسة المصرية بإصدارها بياناً غير اعتيادي فيما يتعلق بالسياسة الاقتصادية. ومن المنتظر أن تمس 30 شركة حكومية ناجحة من ضمنها بنوك عامة على رأسها بنك القاهرة، الذي تراجعت حكومة نظيف في السابق عن بيعه في ظل ظروف معلومة.
المفاجأة هي أن الخصخصة كانت قد توقفت تقريبا في ظل حكومة نظيف تحت ضغط العمال والرأي العام، وبالتالي لم يكن أمام وزير الاستثمار وقتها محمود محيي الدين بديل سوى إعادة هيكلة شركات قطاع الأعمال العام محولاً محفظتها من خسائر إلى أرباح وصلت في لحظة ما إلى 5 مليارات جنيه. بينما استمرت عملية بيع الحصص العامة في المشروعات المشتركة على قدم وساق.
وطبعا لا مجال للرد على تصريح محافظ المركزي بأن طرح حصص البنوك في البورصة ليس خصخصة (إذا هي صورة معتمدة من صورها لنقل الملكية من يد الدولة إلى يد المستثمرين الخواص بكافة أنواعهم). وربما كان يقصد أن البيع لن يتم لمستثمر استراتيجي أو أن الحصص المطروحة لن تعطي القطاع الخاص (حتى الان) وضعية مسيطرة على البنوك والشركات المطروحة.
ما منطق العودة للخصخصة؟
هناك عدة أسباب تقليدية تطرح دفاعا عن الخصخصة: الفشل الحكومي والأعباء على الموازنة العامة، القطاع الخاص أقدر على الإدارة، جلب تدفقات من الاستثمار الأجنبي، نقل الخبرات الدولية للقطاع الاقتصادي المعني وتطوير أدائه بدخول الشركات العالمية، وأخيراً فتح الباب للإفصاح عن أداء هذه الشركات إذ يلزم التسجيل في البورصة بذلك بشكل دوري مما يفتح عين الرقابة العامة.
لنأخذ المثال الذي أشارت له تصريحات لمسئول حكومي أدلى بها لجريدة البورصة والتي أكدت أن شركة مصر للتأمين التابعة للشركة القابضة ستكون أولى الشركات المطروح حصص منها خلال 3 شهور.
بداية، الشركة ليست خاسرة. وهو الشرط الذي أشارت له الرئاسة بوضوح: الشركات المطروحة ستكون \”ناجحة\” وبالتالي لا عبء على الموازنة أصلا. في حالة مصر للتأمين، حققت الشركة صافي أرباح قدره 880 مليون جنيه في العام المالي 2014/2015 بنمو قدره 35% عن العام السابق. ويصل رأسمال الشركة إلى 2.25 مليار جنيه، باستثمارات 14.1 مليار جنيه.
وحصلت الشركة على تصنيف ائتمانى من مؤسسة A.M.Best نهاية ديسمبر الماضى عند «B++» جيد للملاءة المالية، و«BBB» لقدرتها الائتمانية مع نظرة مستقبلية مستقرة.
وتصدرت «مصر للتأمين» الترتيب الأول بشركات تأمينات الممتلكات بالسوق المصرى بحصة سوقية 53.3%، وبقيمة أقساط مباشرة تتجاوز أربعة مليارات جنيه، من إجمالى الأقساط المباشرة للقطاع البالغة 7.6 مليار جنيه تقريباً بنهاية العام المالى الماضي.
الشركة إذاَ رابحة وناجحة. وبالتالي انتفت الحجتان الأولى والثانية: الشركة تضخ أرباحاً للدولة وإدارتها ليست الصورة الكاريكاتيرية لشركات القطاع العام البيروقراطية إياها. أما فيما يخص جلب الاستثمار الأجنبي (وهو أمر هناك عدم اتفاق فيما يتعلق بجدواه وأهميته هكذا في المطلق في التنمية)، فهناك حقيقة أن القطاع مفتوح بالفعل منذ سنوات أمام كبرى شركات التأمين العالمية التي رفعت حدة المنافسة في السوق. وبرغم ذلك مازالت الشركة الحكومية قادرة على الوجود وعلى المنافسة. ويمكن الرد هنا على فكرة تدفقات الاستثمار الأجنبي (حصيلة البيع) بالمقارنة بأثرها المؤقت في دخول دفعة كبيرة لمرة واحدة بينما تخسر الموازنة الأرباح السنوية التي يولدها نشاط شديد الأهمية اقتصاديا (هناك وجود حكومي رئيسي في قطاع التأمين حتى في الولايات المتحدة)، ثم تتحول هذه الأصول إلى عبء دائم على ميزان المدفوعات بعد أن يقوم المستثمرون الأجانب بتحويل أرباحهم للخارج محولة من الجنيه للدولار (لا قيود من أي نوع على تحويلات الأرباح).
أما عنصر الإفصاح فهو أيضا متوفر في حالة شركة مصر التأمين التي تعلن نتائج أعمالها وتناقش سياساتها في الصحافة بالفعل بشكل دوري مثلها مثل أي شركة مسجلة في البورصة.
نفس الأصوات وعالم تغير:
في مقاله أمس الأول في جريدة المصري اليوم يقدم دكتور عبد المنعم سعيد، وهو مدافع قديم من وقت نظيف عن الدور التعميري التنموي لشركات من نوعية طلعت مصطفى وبالم هيلز، سلسلة من التصورات التي عفا عليها الزمن فيما يتعلق بموضوع القطاع العام والخصخصة. تصورات من نوعية الخسائر (الشركات المطروحة رابحة إذ من المستثمر الذي سيشتري شركة خاسرة؟ وقد كان الأمر على هذا النحو في الخصخصة دوما)، أو العمال الكسالى أو عجز الموازنة…إلخ.
لكن الحقيقة أن الواقع العالمي لا يترك مجالا في الحقيقة لهذا النوع من حجج الدفاع عن الخصخصة. تجارب جنوب شرق اسيا التنموية تقول شيئا مغايرا تماما، والسياسة الأمريكية تجاه الأزمة العالمية تضمنت تأميم الدولة لشركات وبنوك كبرى لإنقاذها بعد فشل المستثمرين.
يخبرنا دكتور سعيد بخلاصة الموضوع: \” إننا متخلفون وفقراء لأننا نسير وحدنا في العالم، نتبع سياسات لم يعد يتبعها أحد غيرنا، ولا توجد لدينا الشجاعة ولا الجرأة لاتخاذ قرارات صعبة اتخذتها الغالبية الساحقة من دول العالم التي قبلت أن تشرب المُر، وأن تجعل الإصلاح الاقتصادي مشابها لإجراء عملية جراحية بدون مخدر\”. بل إنه يطالب الحكومة بتقديم تخفيض في أسعار الطرح إذا ما تطلبت الحكومة من المشترين أن يحتفظوا بالعمال.
لا يعبر هذا الكلام سوى عن أصولية فكرية في وقت صارت القوى الاجتماعية عالميا تفرض تقييما علميا مغايرا. مثلاً، أحد أهم الكتب مبيعاً في بريطانيا في عام 2014 كان كتاب جيمس ميك \”جزيرة خاصة: لماذا تنتمي بريطانيا اليوم لآخرين؟\”. وصفت جريدة الجارديان هذا الكتاب بأنه فحص جنائي للخصخصة مثبتاً أن الثمن دفعه المستهلكون بعد أن يدرس تفصيليا ما حدث في قطاعات تمتد من السكك الحديدية إلى الصحة والتعليم، وأثر ذلك على الكفاءة الاقتصادية التي تدهورت، وعلى اللامساواة والفروق الاجتماعية، ومن ثم على الديمقراطية.
السيسي ضد رجال الأعمال؟
من السائد في الاعلام وفي أحاديث الثرثرة أن هناك خلافا كبيرا بين الرئيس ومجتمع الأعمال، لكن قضية الخصخصة لا تدل على هذا بأي حال. لن نشير هنا إلى قوانين المصالحة أو إلى مشاركة القطاع الخاص الكبير فيما يسمى بالمشاريع القومية الكبرى بالأمر المباشر، ولا إلى توقيع قروض مع مؤسسات دولية تتضمن إعادة تطبيق سياسات نظيف بل وما جبن عنه نظيف بمشروطية لا يستحي وزير التخطيط أن يقول إنها تتضمن قانوناً كقانون الخدمة المدنية. لكن يمكن الإشارة إلى عمليات تغيير القوانين وفتح قطاعي الصحة والتعليم لاستحواذات شركات أجنبية غير شفافة لا في ملكيتها ولا في نشاطها أو للتخطيط للتوسع في مشروعات المشاركة بين القطاعين العام والخاص (صورة أخرى من صور الخصخصة) بينما يتم التملص من استحقاقات الانفاق العام الدستورية في القطاعين.
ويجب القول هنا إن القطاع العام ليس هدفا في حد ذاته وما ليس قطاعاً عاما ليس بالضرورة الشركات الكبيرة وليس بالضرورة شركات أصلاً. إن ثنائية القطاع العام في مواجهة القطاع الخاص هي الأخرى ثنائية عفا عليها الزمن في ظل قوى اجتماعية صاعدة وتجارب عالمية تحررت من هذه الثنائية، ونظريات جديدة تتحدث عن أشكال مختلفة للملكية وطرق أكثر ديمقراطية وجذرية لإدارة الاقتصاد يمكن أن تكون جنيناً لبديل يتجاوز استغلال وتسلط رأس المال وعسف وتسلطية البيروقراطية (ما بعد رأسمالية بتعبير النقاش الدائر عالمياً ضمن التيارات الفكرية السائدة). وهو بديل لا يمكن أن ينفصل عن ديمقراطية حقيقية تعطي الناس الحق في أن يتخذوا هم قرارهم دفاعا عن مصالحهم، وهو أمر لا ينفصل فيه الاقتصادي عن السياسي بأي حال.
عودة الخصخصة هي تجسيد جديد لما كانت عليه سابقاً: نزح للثروة العامة إلى يد مجموعات المصالح الكبرى من رجال الأعمال المرتبطين بالنظام، والذين كانوا ولايزالون شركاء أساسيين في الحكم، وبمباركة مؤسسات كصندوق النقد والبنك الدوليين وقوى عربية ودولية صاحبة مصلحة. وهو قرار سياسي منحاز ضد التنمية وضد الكفاءة وضد الديمقراطية.
لا تقدم بالخصخصة.