عند قبر بعض شهداء ماسبيرو، هناك لافتة مكتوب عليها تاريخ استشهادهم، 9 اكتوبر 2011.. اللافتة أيضا عليها عبارات منحوتة بالأسود، تسرد: \”برصاص ومدرعات الجيش المصري أمام مبنى الإذاعة والتلفزيون (ماسبيرو) أثناء وقفة سلمية – بدون سلاح- لوقف هدم الكنائس في مصر\”
أحيانا ما يكون للجماد ذاكرة أفضل من الإنسان، واللافتة خير مثال.. مضت أربع سنوات على حادثة ماسبيرو التي كانت مجزرة للأقباط، ليس فقط بالمعنى الحرفي، لكن بالمعنى الأدبي للكلمة.. ذُبح بعض الأقباط حين خرجوا من كنائسهم ليطالبوا بحقوقهم، فعاملهم الجيش كالأعداء ودهسهم واطلق عليهم الرصاص، ولم تكتف مؤسسات الدولة بهذا، فحتى مبنى الإذاعة والتلفزيون الذي تظاهروا عنده ليستنجدوا به حين طالبوا بتسليط الضوء على ما يحدث من أعمال هدم لكنيسة الماريناب في أسوان، نقل أكاذيب عنهم وحرض ضدهم وطلب من \”المواطنين الشرفاء\” الدفاع عن الجيش والتصدي للأقباط!
بأي منطق يمكن لأقباط عزل أن يهاجموا جيشا مسلحا؟ وبأي منطق يُستدعى مواطن للنزول للدفاع عن جيشه؟ وبأي منطق يُسمح للإعلام الرسمي بأن ينقل شهادة مجند وهو يقول: \”المسيحيين ولاد الكلب\”.
المنطق الوحيد هو طائفية الدولة، التي ظلت تذبح شهداء ماسبيرو حتى بعدما دهستهم المدرعات، ففي المشرحة بدأت أول مراحل طمس الجريمة وإقناع من فقدوا ذويهم بالنسيان، عن طريق عدم تشريح الجثث حتى تتمكن الدولة من التستر على جرائمها، لكن أصر الأهالي والرفقاء على التشريح في أول محاولة أيضا لمحاربة النسيان وإحياء ذكرى موتاهم.
واستمر من اختاروا الدفاع عن جريمة الدولة في مطالبتنا بالنسيان.
“فلننسى ما هو وراء\”.. قال أحد مسئولي الكنيسة (الأنبا بولا) على برنامج لأحد مخبري الدولة (تامر أمين).
وفي لقاء مع البابا تواضروس في صحيفة إسبانية قال إنه لا يعرف من قتل شهداء ماسبيرو، حيث إنه لم يكن بابا آنذاك!
وكأنك لا تستطيع رؤية المدرعات وهي تدهس مواطنيها دون أن تكون بطريرك الكرازة المرقسية؟! وكأنك لا تستطيع سماع رفقائهم الذين نجوا من محاولات الدهس دون أن تكون بابا!
وحين هوجمت كنائس أخرى بعد فض رابعة، كان مطلوبا منا أيضا أن ننسى تخاذل الدولة عن حماية الكنائس وغض البصر عن البطء الشديد في ترميمها.
مطلوب أيضا نسيان هجوم الشرطة على الكاتدرائية مع استمرار وزير الداخلية المسئول عن الهجوم حتى بعد إزاحة مرسي، بل تكريمه حتى يكون في ذاكرة الوطن ويعلو اسمه إلى الأبد.
مطلوب أن نتذكر فقط ما لا يزعج النظام، وأن ننسى ما يسبب له ولنخبته صداعا غير مرغوب.
بل مطلوب انتقاد النظام نقدا شديدا في أشياء يمكنها أن تكون مسئولية أي جهة غير النظام، لكن بدون إدانة القيادات العسكرية التي كانت في الحكم أثناء مذبحة ماسبيرو، ولا تزال في مواقعها اليوم.
مطلوب أن اتذكر في صمت، أو ألا اتذكر بالمرة.
وكأن من الطبيعي والبديهي أن لا اتذكر أناسا دُهسوا بمدرعات بلادهم أمام مبنى إعلام بلادهم، الذي حرض أولاد وطنهم على إخوتهم حين تظاهروا ضد التمييز وهدم دور عبادتهم!
وكأن الطبيعي هو النسيان لجريمة من أبشع الجرائم التي مرت على مصر.. اكتملت فيها أركان الكراهية والعنف والإفلات من العقاب، لكن في هذه الحالة، النسيان أيضا جريمة.. في غياب أي سبيل للعدالة، أصبحت مسئوليتنا عدم النسيان، وذلك أضعف الإيمان.. أن نحيي ذكرى ماسبيرو هو أن نتذكر، وحينما تكون الأحداث كبيرة وظلمها بيّن، يكون التذكار سهلا، لكن حينما يتعلق الأمر بشهداء ماسبيرو، حتى الذكرى بها صعوبة في وقت طالبك الكثيرون بالنسيان.