وبدون أي مقدمات ولا سلامات، بدأت سطور الخطاب وكأن شخص يكمل حديثه \”ألم أقل لك ثق بي ولا تفزع؟ أراك الآن قد اقتنعت أن الأمر بيدي، فإن المال والقوة يفتحا الأبواب المغلقة، ويثنيا النفوس عن عزمها، تريد أن تعلم من قتل الشيخ عمران؟ أهو قتل حقًا؟ أسئلة ربما تدور في ذهنك ليس لها إجابة إلا عندي.. استرح اليوم فقد أضنتك ليلة البارحة، وإني أريدك صافي البال، لكن في الصباح فسيجد في حياتك الجديد.. وتذكر جيداً أن سيد الآن معنا في اللعبة، فلا داعي إلى أن تبذل مجهودًا معاكسًا في هذا الأمر، فهو منتهي، سيد معنا في اللعبة لا محاله.. اللعبة. نعم إنها لعبة وأنا أتسلى بها، وأنت صديقي وبيدقي الذي أحركه لأحقق نشوة الفوز، ولا تقلق أن يُضر -سيد- فهو مثلك الآن، بيدق في لعبتي الآمنة، الممتعة، وبكما سأصل لمبتغاي ومرادي، وسأثبت لك أنني الأعلى والأقوى.. أعلم أنك تستغفر الله من كلماتي التي في اعتقادك أنها تجديف بين صريح، فدعك من هذا الآن فهذا لن يوضع على طاولة الحوار فيما بيننا، كما أن خانة الديانة في بطاقة هويتك شرفية وراثية، فهل ركعتها منذ صغرك!؟..
نم قليلاً، ولا تنسى أن تختبر مقدرة قراءة زوجتك من عدمها، وهل هي كذبتها الوحيدة عليك؟ أم لا؟.. سلام يا بيدقي.
لا.. لاتذهب، انتظر.. أتتذكر الشاب الذي تجاذب معك أطراف الحديث وأنت في الحجز، كان اسمه (طفش)، إن رأيته لا تتجاهله، وتحدث معه فهو رسالتي القادمة.. سلام الآن يا بيدقي العزيز\”
خرج صلاح والخطاب في يده، وطلب من بطة كوبًا من الشاي ثم اتكأ على الأريكة ووضع عليها الخطاب، وعندما أتت بطة بالشاي، سألها:
– \”هل سددتي قسط المروحة؟\”
أجابته: \”أخذت منك القسط وسددته في نفس اليوم\”
فناولها الخطاب قائلاً:
– \”الرجل الخرف أرسل لي هذه الفاتورة مدعيًا أن القسط لم يسدد\”
ثم أردف سائلاً:
– \”هل هو من استلم منك المبلغ؟ أم صبيه؟..\”
– \”هو. وحياة أولادي.. حتى الإيصال معي\”
– \”إذن اقرئي الفاتورة المكتوبة..\” ثم صمت قليلاً وهو يراقبها تتطلع إلى الخطاب بأعين زائغة، وقال:
– \”هاتي الإيصالات كلها..\”
أتت بالإيصالات متمنية أن ينتهي هذا الموقف بسلام، فباغتها صلاح قائلاً:
– \”أخرجي لي إيصال شهر مايو\”
تسمرت في مكانها، وقلبت بين الإيصالات وهي تلعن اليوم الذي طلبت فيه شراء مروحة، وأخرجت من بين الإيصالات واحداً عشوائياً، ومدت يدها به، قال: \”ليس هذا..\” فأعطته آخر \”ولا هذا.. مالك يا ولية؟ ألا تعلمين أين إيصال مايو؟\”
– \”أحتاج إلى نظارة قراءة\”
أخذ منها الإيصالات مخاطباً نفسه: \”يا لك من داهية\”
قالت:
– \”سأذهب له في الصباح وأُسمعه من المنقي خيار..\”
– \”قلبك أبيض، سأرسل له تفاهة عندما أذهب إلى الورشة\”
وفي صباح اليوم التالي بينما صلاح يتلقى التهاني من صبيان الورشة بصدق أو متملقين، وبكلمات تدور في فلك مثل هذه المناسبات \”كفارة – السجن للجدعان- ما يقع إلا الشاطر..\” وهكذا من الكلام. تمم بعدها صلاح على العمال والأعمال التي نضبت في الفترة الأخيرة، فأصبحت إصلاحات ضنينة تقي على استحياء من إغلاق الورشة وتسريح العاملين بها، وبعد أن فرغ من رسم الرئاسة والأسطوية، سحب كرسي وجلس على باب الورشة بعد أن ندى تفاهة الأرضية المتربة برش الماء، أخرج صلاح من بين سجائره سيجارة غير عذراء، ووجد يد تشعلها وصوت يقول:
\”صباح الفل يا سيد المعلمين\”
كان طفش يواجهه وهو مهندم الثياب -بالنسبة لحي فقير- ورائحة زيوت عطرية نفاذة تفوح منه، استقام صلاح وحياه وأمر له بكرسي وفنجان من القهوة، وتبادلا عمود الدخان وهما يتكلما، ولولا أن الشاب قد بدأ جذب أطراف الحديث ما كان بادره صلاح بهذا، وكان سيظل في انتظار الرسالة التي أتى بها. كان طفش ذو لسان يجري عليه الكلام كسيل همر، مجموعة من التشبيهات والشتائم لحكايات غير ذات صلة، وبعد أن بلغ الشاب منتهى قهوته، مال على الأسطى صلاح وبنظرة مقامر ثابتة قال:
– \”هل فَرْفَرَ الرجل بين يديك؟ أم قابل مولاه في سكون؟\”
باضطراب شديد:
– \”الرجل من؟\”
– \”عم الشيخ عمار!!\”
– \”الشيخ عمران. أنا لم أقتله..\”
قاطعه طفش ماطًا كلامه:
\”عمار.. عمران.. كله في السماء سِيَّان. ولا يوجد قاتل يعترف بفعلته إلا لو كان مجنونًا، ولا مجنون يرى جنونه إلا لو كان عاقلاً.. وأنا لا قاتل ولا مجنون، وما دعاني للمجيء إليك هو ما تلمسته في قلبك من شجاعة بعد ما دار بينك وبين الضابط من حوار.. ستسألني كيف عرفت ما قيل بينكما أثناء التحقيق؟.. فمن أعلمني هو من أخرجك منها كما يخرج الشعرة من العجين..\”
ثم لاحت فينة قصيرة من الصمت، كانت على صلاح كالساعات، يحدق في الشاب ولا يجد لسانه ما يقال بعد أن جف حلقه، ولاستكمال المشهد أدار الشاب جزعه قليلاً ناحية صلاح، ورفع قميصه كاشفًا عن غدارة يبدو عليها أنها جديدة، ثم سحبها بسرعة ووضعها بين رجلي صلاح وقال مغادرًا:
\”قد تحتاج الحماية يا سيد المعلمين\”
تتبع