هيثم رزق يكتب: اليوم المفتوح (الحلقة الثالثة)

اضطربت بطة وبطبطت، واخترق صوتها الحوائط والأبواب، فانفزع صلاح من نومته القلقة في الأصل، وجرى عليها وعيناه في عينيها، ولما لم يفهم منها كلمة، استشف سبب هلعها من حركة يديها وجسدها. وكعادة بطة ضربت الرأس وشكلت من الندب والولولة أبيات مسجعة، فناديا على سيد وإخوته ليعرفوا من أخذ الظرف.

واصطف الولدان والبنت أمامهما مرتعدون من هيئة الأب والأم التي تنذر بعلقة ساخنة، وسألت بطة صارخة:

((من مُدت يده على الذي كان هنا؟)) وامتنعت في سؤالها عن تحديد كنهه (الظرف). فأنكر جميعهم حتى رؤيته، ولاحظ صلاح شدة ما كان عليه العيال من اضطراب لصراخ بطة الغير منقطع، وهي تلكزهم وتعنفهم، وتسب سلسالهم، فآصر الرجل ودهم، حتى يهدئ ما وصلوا إليه من ارتياع، عازماً على أخذ كل على انفراد، يتبع معه الحيلة لينال اعتراف. فمن خِلاف قبض على رقبة زوجته، وساقها إلى الحجرة وهي تهتز كالممسوسة. وبسطوة ما دار بينهما على الفراش الأمس، نخت لأمره وجلست مصفرة الوجه ولم يتوقف جذعها عن حركته البندولية.

فتح صلاح حديثه مع أولهم بصيغة ترغيب كاذبة: ((ضاع الظرف وكان به مالاً يشتري لك البسكلتة التي أردتها، عوضنا على الله.. لكن ظني أنه نتر هنا أو هناك، سنجده إن شاء المولى))

– ((لو كان به مال ما تركته أمي))

– ((أتكذبني!؟))

بتهكم قال الأبن الأصغر: ((لا يا أبي حاش لله، ولكنني أعرف أمي))، ثم أردف: ((أستأذنك أبي..))

أشار له الأب بالذهاب وهو يشعر بالغباء وبالكدر مما اقترفه لسانه. ومع البنت الوسطى بدأ حديثهم وانتهى بالبكاء، والحلفانات بكل عزيز غالي -كأمها- أنها لم تمد يدها عليه.

ولما جاء لأبنه الأكبر سيد، وقبل أن يستفيض فيما بدأه مع الآخرين من حديث ممجوج، أخرج سيد الجواب من جيبه ككتلة ورق مكرمش، وقال:

– ((أبي أجعل الحديث بيننا))

أطال الأب له النظر، وحافظ سيد على مسافة أطول من ذراع فيما بينهما حتى لا تطوله صفعة على قفاه أو لكمة في وجهه، ثم عاود رجائه:

– ((أبي أجعل الحديث بيننا.. رجل لرجل))

قال صلاح: ((أجلس وهات ما عندك..))

وهنا دخلت عليهم الأم كالصاعقة، وبكلتا يديها سفقت على أذني سيد، ولطمته على وجه مراراً، وتركها صلاح حتى تنتهي مما كان يريد فعله، ولكن جهله عما يحتويه الجواب منعه، ثم دس الظرف في جيبه، وتقمص دور المنقذ، وسحب سيد من بين يديها على الورشة، وهي تلاحقهما بالسباب حتى أول الحارة.

في الورشة. استقبلهما تفاهة بابتسامة متوجسة خيفة، وللحد من قلقه تمادى في الترحاب بالأسطى وابنه، فسأله صلاح مستفهماً:

((ما بك يا تفاهة!؟ شكلك عامل عَمْلَة!))

تجاهل تفاهة السؤال، قائلاً:

((خطوة عزيزة يا سيد))، ثم أردف موجهاً كلامه لأسطاه: ((هو الغالي أبن الغالي بيجيء كل يوم!؟.. تشرب أيه يا سيد؟))

– صلاح: ((هات له كازوزة))

– تفاهة، وبصوت خفيض: ((هو سيد متخانق؟.. فوجهه متورماً محمراً))

– ((هذا لا يخصك، واذهب وأتي بالكازوزة))

– ((أمرك يا أسطى)) قالها وهو مازال قلقاً من أن تكون الست بطة أخبرته بما هددته به في الصباح عن فعلته مع سوكة.

أجلس صلاح إبنه في ركنٍ قصي عن آذان صبيان الورشة، حتى يتثنى لهما الحديث، أخرج الظرف من جيبه، فضه، قرأ، وفهم، متذكراً ما حدث مساء اليوم السابق عندما حاولت زوجته القراءة ولم تعي، وتجاوز فعلة بطة بعد أول سطرفي الرسالة:

\”صلاح، أراك ارتبكت من أولى رسالاتي، كما أربكت من حولك، إن هذا بيني وبينك، وللتأكيد على ما أخبرتك به مسبقاً، لا تُطلع أحداً على رسائلي، ولا تخبر أحداً عن محتواها، وإن حدث، كذبه، لتبعد عنه الضرر وحتى لا يدخل في لعبتنا مرغماً.

أنت الآن البطل يا صلاح، يا صديقي، ويومك المفتوح الذي تنتظره مجبراً قد يبدأ في فجر أي يوم قادم، فاستعد له، واستمتع به، وسأحميك من كل ضرر، على أن تكون جاهزاً، وجاهزيتك هذه أنا من سأحددها. أما الآن وكي لا أطيل عليك، فمن الواجب أن أحذرك من شر يقبع في فراشك، زوجتك، وإن كانت تُظهر البلاهة في كثيرٍ من الأحيان، فهي ليست كذلك، كاذبة، ألم تتسائل بينك وبين نفسك لما استغلقت عليها القراءة بالأمس، وأنت ببلهك صدقت إدعائها، وأخذت منها الرسالة وهيء لك أنك لا تفهم المكتوب، ذلك من شدة اضطرابك.. لا تنفعل، فهذه عادتك منذ الصغر، سأذكرك بحادثة قديمة وأنت في العاشرة.. ذهنك شرد في سؤال عما أدراني بطفولتك، أنا أعلم عنك ما لا تعلمه عن نفسك. سأروي لك في عجالة، أتتذكر عندما عنفك أبوك وأنت تقرأ درس (ساعي البريد)؟ نشط ذهنك معي يا أسطى صلاح.. بل كُفْ. كُفْ عن البحث في ذاكرتك، واقرأ الدرس:

سعاد: افتح الباب سعيد

إنه عمى فريد إنه ساعى البريد

إنه جاء إلينا إنه نادى علينا

مرحباً عمي فريد

مرحباً بابني وبنتي مرحباً فى كل وقت بسعادٍ وسعيد

لكما مني تحية لكما عندي هدية إنها من بورسعيد

الآن أراك قد تذكرته جيداً، أتعلم محتوى الرسالة التي أتى بها ساعي البريد؟ بالطبع لا.

أنت ساعتها وعندما عنفك والدك وأنت تقرأ، اختلط عليك الكلام وغاب عنك معناه -كعادتك- أما عن محتوى الرسالة، فأنا، أنا من أرسلتها وأعرف ما بها، وما بها يهمك، كنت أبعثها إليك، وحان الآن موعد فهمك..\”

وفي هذه اللحظة. طعن صوت تفاهة العالي الحالة المستغرقة التي كانت تنتاب صلاح، قائلاً:

((الكزوزة وصلت..))

تتبع

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top