هويدا طه تكتب: لا تكوني: السيدة الفاضلة!

العنوان صادم؟! اقترح إذا أن تتمهلوا قليلا، إناثا وذكورا، تعالوا على الأقل نتعرف على مواصفات (السيدة الفاضلة) المستقرة في أذهاننا ووجداننا العميق، تلك التي غرستها هناك ثقافة مجتمعنا منذ تلقفتنا عند مولدنا.. إناثا وذكورا!

على رأس (قائمة مواصفات السيدة الفاضلة) – طبعا- (أن تقهر) الأنثى رغباتها الجنسية الطبيعية الغريزية التي هي (خلقة ربنا)! فكلما قاومتها أكثر.. وحرمت نفسها عمدا.. احترمها المجتمع أكثر! (نعم نعم.. هو ذاته المجتمع الذي يُحِل لمعظم ذكوره ثقافيا وقانونيا ودينيا أن يشبعوا رغباتهم الجنسية.. منذ بلوغهم الحلم وحتى إغلاق قبورهم عليهم.. دون أي لومٍ أو تأنيب أو زجر إلا قليلا.. نعم هو ذاته!).. كلما عاندت الأنثى طبيعتها اقتربت أكثر من نيل اللقب.. الفاضلة!

لكن طبعا لن يسمح المجتمع بأن تكون (كل) إناثه فاضلات! فذكوره لن يشبعوا رغباتهم ذاتيا! (إلا قليلا)! لذلك فإن (فضيلة قهر الرغبة) تأخذ بُعدا طبقيا كذلك.. فالفاضلة هي دائما.. (بنت ناس)! أما من تستجيب لنداء الطبيعة بطريقة أو بأخرى.. فهي (مش بنت ناس ومش متربية).. منفلتة.. منحلة.. خاطية وجالبة للعار.. وألفاظ أخرى بذيئة للغاية تحط من شأن المرأة حطا بليغا.. وهذا الحط من شأنها ليس كل عقابها! أشكال العقاب قضية أخرى! لمجرد أنها أرادت حقا طبيعيا لها.. بل ضمن من يعاقبونها أو يحقرونها قد يكون شريكها الذي تلبي نداء غريزتها معه! (وبالمناسبة الاستجابة لنداء الطبيعة ليست بالضرورة (فعلا حراما)! فهناك طرق (مش حرام) تستجيب بها المرأة لنداء غريزتها ومع ذلك يغضب منها المجتمع.. فهو يأبى إلا أن تستجيب بالطريقة التي يرضاها لها لا تلك التي تختارها لنفسها)..

أنظروا حولكم.. كم من إمرأة تعرفونها ترملت باكرا لأي سبب أو تطلقت ولديها طفل أو أكثر وهي مازالت بعدْ شابة، وحين تطلب حقها في فرصة ثانية قد لا يعترض البعض لأنه حق قانوني.. لكنهم يتبرمون ويصفونها بأبشع الصفات ويشككون في أمومتها.. فإذا مارست (نكران الذات) ولم تجرؤ على طلب هذا الحق فسوف تنال كل التقدير.. هي وقتها.. السيدة الفاضلة!

كم من فتاة تعرفونها حولكم مرت بها السنون تتلو السنين وهي لم تجد زوجا مناسبا.. وراحت تكبت رغباتها حتى في عنفوانها.. دون أن يشعر بآلمها ومعاناتها أحدٌ ممن هم حولها يرقبون بتلذذ وتربص معركتها مع غريزتها.. سنة وراء أخرى وعقدا وراء آخر وما تحصل عليه هو إنها.. العانس الفاضلة! فأي استجابة لنداء الطبيعة هي (خطيئة).. لذلك فهي تلك المستقيمة كما حرف الألف!.. هي الفتاة الفاضلة!

بل حتى من لها زوج.. هناك احصائيات ودراسات (عالمية ومحلية بالمناسبة) عن تلك النسبة الهائلة من الزوجات اللاتي يحرصن على إشباع رغبات أزواجهن دون أن يجرؤن على التعبير عن حقهن أيضا في الإشباع.. وكلما كبتت رغباتها المبتورة كلما كانت تلك.. الفاضلة! وفي هذا السياق فلننظر حولنا.. المرأة المصرية بصفة عامة احترفت الكبت وصار رفيقها من المهد إلى اللحد.. المدهش أن من تطلب حقاً في هذا المجال.. أو من تتحدث عنه من الناشطات في مجال حقوق المرأة توصف بأوصافٍ أكثرها تهذيبا أنها.. فاجرة!

وتأتي في قائمة مواصفات السيدة الفاضلة كذلك (أن تتنازل) هذه الفاضلة عن حقوقها الاجتماعية أو المدنية (كإنسان أو كمواطنة).. حين تتنازل طوعا فهي إذا تستحق اللقب.. هي إذا.. فاضلة! فرصة نجاح أمام أسرة ما.. أو فرصة عمل.. أو فرصة سفر أو أي مكتسب.. فالولد هو الأولى بها.. (البنت تستنى)! في تقسيم ميراث.. في أولوية ظهور اجتماعي.. في تحقيق نجاح.. الزوج أولى من زوجته.. الأخ أولى من أخته.. وهكذا.. وستحظى بتقدير بالغ تلك التي (تتنازل طوعا) عن فرصتها لأجل أخيها أو زوجها! ستحصل حينها على لقب.. الفاضلة!

وكما أن الكبت والاستعداد للتنازل الطوعي هما من أهم مواصفات المرأة الفاضلة فإن صفة أخرى هامة جدا في تلك القائمة.. (أن تذعن) لذكور عائلتها.. أب أخ زوج إلى آخر قائمة الملاك.. أن تذعن فهي محترمة.. فاضلة! الإذعان أو الرضوخ.. يعني ألا تقرر من أمر نفسها شيئا وتترك لهم (قيادها).. وإذا (قاومت)؟! أعزائي القراء.. إناثا وذكورا.. نحن نعيش في مجتمع واحد وتعرفون ما أعرف! تعرفون معنى أن توصف امرأة بأنها.. قادرة.. وقارحة!

 قائمة مواصفات المرأة الفاضلة.. تكوّنت عبر السنين لتضمن شيئاً واحداً: ترسيخ ملكية الرجل للمرأة.. أن تكوني فاضلة يعني أن تحفظي له أملاكه! جسدك وروحك وقرارك وعقلك! هل هذا كلام (ناشطات نسويات)؟! لا طبعا.. هذا واقعك أيتها السيدة.. الفاضلة!

أما كيف تكونت هذه القائمة.. فلقب السيدة الفاضلة يعكس موقفا ثقافيا، واللغة كما تعرفون مرآة الثقافة، التي هي مجموع محركاتنا النفسية والعقلية والفكرية والسلوكية: الدين، العادات، التقاليد، المصالح المادية، المعارف المتراكمة، الخبرات المكتسبة إما ذاتيا أو بسبب الاحتكاك مع ثقافات أخرى، وهكذا، بهذا التوصيف تكون ثقافة المصريين هي موروثنا منذ الفراعنة وحتى يومنا هذا مرورا بصنوف الأديان والخبرات والمعارف التي حطت على مصر أو ولدت على شطآن واديها.

هذا الموروث على مختلف روافده الدينية والمجتمعية تعامل مع الأنثى باعتبارها (ملكية للذكر)! حتى اليوم! نعم حتى اليوم!، لكن فقط تختلف (صياغات) عقود الملكية لتناسب كل عصر وأوان! وهذه الملكية .. تعترف بها الإناث ضمنا (بإرادتها أو قهرا).. فحتى لو رددتها المرأة ذاتها وبدت كما لو كانت تقبل أو حتى تتحمس لقائمة مواصفات المرأة الفاضلة.. بل وحتى لو قيل إنها ساهمت في صياغتها وليس الرجل فقط.. فإن ذلك الإسهام في الحقيقة هو إسهام بالإذعان وليس بالاقتناع أو المشاركة في التأليف! (رداء الفضيلة) عامة في التاريخ البشري هو رداء خاطه وفصله تفصيلا رجال الدين- كل الأديان- في كل العصور، ومعهم شركاؤهم من سادة القبائل في كل الأمم، والأثرياء في كل الأزمنة، وخدمهم من محترفي الفنون عبر الزمان.

 

لنأخذ أمثلة لروافد الثقافة التي منحت الذكر المصري حق وضع تلك القائمة!.. وهي أمثلة وليس حصرا.. لأن روافد ثقافة سيادة الذكور هائلة وممتدة ومتشابكة عبر آلاف السنين.. لكن على رأسها بالطبع: الأديان، فالدين رافد هائل تسلح به الذكور- عن حق أو عن افتراء – كي يرسخوا تلك الأفضلية للذكر في المجتمع.. كل الأديان متشابهة في مختلف الأمم.. إلا أننا كمصريين نهتم بالأديان الثلاثة فقط بل فقط.. (الإسلام والمسيحية)، كل موروث الإسلام والمسيحية يكرس ويغرس إلى أبعد عُمق أن.. الأنثى هي ملكية للذكر! لا أجادل هنا من منطلق ديني.. لذا فليوفر البعض صراخ التكفير الآن! هي فقط مجرد محاولة لتوصيف حالة!

الأحاديث النبوية الشريفة مثلا بغض النظر عن ضعف الحديث أو قوة سنده.. تستخدم لتمرير المواقف الثقافية دينيا، هناك مثلا (لا يحل للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه ولا تأذن في بيته إلا بإذنه.. رواه البخاري )، وكذلك (والذي نفس محمد بيده لا تؤدي المرأة حق ربها حتى تؤدي حق زوجها ولو سألها نفسها لم تمنعه) والحديث ذكره الألباني في صحيح ابن ماجة، في الفقه الإسلامي إذا يجب على الأنثى أن (تطيع) الذكر.. من أبيها إلى إخوتها إلى زوجها.. المفاضلة فقط فيمن هو أولى بالانصياع! (يقول أحد الفقهاء: اذا تعارضت طاعة الزوج مع طاعة الأبوين، قدمت طاعة الزوج، وفي امرأة لها زوج وأم مريضة: طاعة زوجها أوجب عليها من أمها إلا أن يأذن لها. شرح فصل: منتهى الإرادات).. طاعة المرأة لزوجها أو لمالكها الرجل أيا كان.. هي أمر مفروغ منه في الإسلام والجدال حوله.. طريق للمهالك!

** الديانة المسيحية لا تختلف مطلقا وبتاتا! ففيها يجب (إخراس المرأة)! ( 34 لتصمت نساؤكم في الكنائس لأنه ليس مأذونا لهن أن يتكلمن كما أراد الناموس، 35 ولكن إن كن يردن أن يتعلمن شيئا فليسألن رجالهن في البيت لأنه قبيح بالنساء أن تتكلم في كنيسة) الإنجيل: كورنثوس الأولى 14: 34-35، كذلك المرأة في الديانة المسيحية هي (شيء لأجل الرجل ليس إلا)، ( الرجل لم يُخلَق من أجل المرأة بل المرأة من أجل الرجل) كورنثوس الأولى 11: 8-9 ، الأديان إذن تكرس فكرة أن الهدف من وجود المرأة أساسا هو لأجل تلبية حاجات هذا المخلوق المدهش.. الرجل!

إلى جانب الأديان وما كرسته، فالثقافة عبرت في أمثالنا الشعبية المصرية مثلا عن اعتبارعبودية المرأة للرجل أمرا طبيعيا، وحتى لو  تمردت فهي تتمرد لا على تلك (الحقيقة) إنما فقط  على شروط تطبيقها: (أطبخي ياجارية.. كلف ياسيدي!)، وتعبيرا عن قبولها بدونيتها تفرح  المرأة بمولودها الذكر (لما قالولي دا ولد.. اتشد حيلي واتسند ولما قالولي دي بنية اتهدت الحيطة عليّا)! وهناك مئات بل آلاف الأمثلة الشعبية عن دونية المرأة في الموروث الثقافي.. في نظر الرجل المالك الأصلي وفي نظرتها لنفسها حين تعيد إنتاج ما غرس فيها منذ صغرها.. لتستمر تلك الثقافة حية تسعى.. عبر الأجيال!

** وتأتي نتاجا لكل ذلك قوانين وتشريعات حاكمة مدنيا لتقول إن المرأة حتما هي ملك للرجل يقرر بشأنها ما يريد! في مصر هناك قوانين – حتى لو مهمشة عمليا في بعض الأحيان فإنها موجودة ويمكن قانونيا تطبيقها بلا أي غضاضة! مثلا أنه يجب على المرأة الحصول على موافقة زوجها أو أيا كان وليّ أمرها للسفر، أن شهادتها في القضايا التجارية والعقود مثلا هي بمثابة نصف رجل، أن جدّ أولادها هو الأحق بالوصاية على أطفالها في حالة وفاة زوجها، وهكذا.

الفنون التي يبدعها المجتمع تعكس تلك الثقافة أيضا.. السينما والرواية والمسلسل والمجلات النسائية ووو.. لا أنسى  أبدا مشهدا في فيلم.. حيث كانت مديحة يسري سيدة عاملة ومديرة وزوجها مهندس ولديهما أطفال في أسرة من الطبقة الوسطى، أصيب الزوج إصابة عمل أقعدته بالبيت فكانت الزوجة هي مصدر الدخل الوحيد.. الفيلم كله يصارعك كي يقنعك أن المرأة مهما نجحت فإنها يجب أن تظل عبدة لزوجها.. الهدف النهائي من وجودها هو أن تسعده وترضيه وتحقق له أحلامه وتظل دائما أبدا في حالة اعتذار أمامه حتى لو لم تخطئ.. وأن الرجل مهما ضعف يجب أن يظل دائما (صاحب حق) في كسرها.. (حاجة تشل الحقيقة!)، مشهد النهاية كان معبراً بدرجة إبداع هائلة حقا في التعبير عن مكنون ثقافتنا، وأبدع الفنانان الكبيران في التعبير بنظرة العين عن فحوى تلك الثقافة.. فهي جاءت نادمة بعد صراعات الفيلم كله.. رغم أنها لم ترتكب – منطقيا – أي خطأ.. كان خطؤها فقط أنها ناجحة وتعمل وتنفق عليه! وحين جاءت إليه تعمد اسقاط سيجارته على الأرض وفي عينيه تلك النظرة التي تختبر: هل ستنصاع هي أم لا!.. وكانت نظرتها نظرة المرأة التي فهمت المطلوب منها مهما نجحت.. وتوافق على الرضوخ.. فانحنت الست المديرة على الأرض وتناولت السيجارة من موقعها عند قدمي ذلك الإله وانتصبت لتضعها بين شفتيه!.. في مشهد معبر للغاية عن هدف ثقافة المصريين النهائي في تلك العلاقة!.. مازال أمامنا قرون حتى نعترف.. ذكورا وإناثا.. أن المرأة إنسانٌ مثل الرجل…بتلك البساطة!

أن تكوني امرأة فاضلة في مثل هكذا مجتمع يعني أن تكبتين رغباتك، وتتنازلين عن حقوقك المدنية والاجتماعية، وتقبلين بأفضلية أبيكِ وأخيكِ وزوجك وإبنك عليكِ، وترضخين لهم في اقتيادهم لك والاستيلاء على حياتك، وألا تسمحين لنفسك بحق (الطموح) لتحقيق نجاح أو (التحرر) كي تفعلين ما تريدين كأي إنسان، وألا تمارسين كبرى الخطايا.. التمرد! التمرد على مثل هكذا ثقافة تستولي على روحك.. لكن هناك عبارة شهيرة قالها ديستوفسكي وهو يتألم: (الإفراط في الوعي علة)! لأن من يزيد وعيه يستشعر كم هو مسلوب الحق والإرادة.. وعليه لابد أن يسعى لاسترداد حقه.. وطريق استرداد الحقوق طريق مجهد.. لذلك حين يزيد وعي الأنثى في المجتمع المصري.. بتأثير عوامل عديدة.. ليس القراءة فقط إنما السينما والتليفزيون ووسائل التواصل الاجتماعي وما إلى ذلك.. فإنها ترى كم هي مسلوبة الحق منذ زمن طويل.. وستبدأ في التململ ثم التمرد.. وحين تتمرد سيقولون لها كلمات مثل قادرة وقارحة وفاجرة!.. لكن لا عليكِ منهم.. تمردي!

قولي لهم: إذا كانت الفضيلة أن أعيش غُبن الكبت وظلم الإذعان وإجحاف التنازل عن حقوقي والرضا بالاستيلاء على روحي ووقتي وإرادتي.. فاحتفظوا بها لأنفسكم تلك الفضيلة.. كونوا أنتم الفضلاء فأنا لا أريدها..لا تمنحوني اللقب.. لا أريد أن أكون (تلك).. الفاضلة!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top