ذات ليلة جمعني لقاء بمجموعة من الصديقات، كلهن كاتبات، يكتبن من المقال الصحفي إلى القصص القصيرة والرواية وحتى قصائد الشعر، وكلهن بالطبع مسكونات بهموم مجتمعاتهن.
دارت مع فناجين القهوة والشاي أحاديث شتى.. حول السياسة والفن والأدب والشعر والرسم والموسيقى والسينما والثورة والتاريخ، ثم.. وأثناء تلك الرحلة الممتعة بين الفنون والآداب.. لا أعرف متى وكيف تسلل ليتوسط جلستنا ذلك السؤال:
إلى أي مدى تفتضح ذاتك في كتاباتك؟! أو.. إلى أي مدى يُفتش الآخرون عنكِ فيها، ويحاولون التلصص على أوجاعك او أسرارك أو مواقفك من ثغراتٍ بين السطور؟ إلى أي مدى يتسللون من بين كلماتك لمفاجأتك وأنت متلبسة.. في حالة حنين ربما.. أو جرأة، تمرد، شبق، ضعف، توقٍ إلى شيءٍ ما.. أي شيء؟ وكيف تتقافزين بين كلماتك وأسطرك.. لتفادي تلك المحاولات المستديمة من قرائك ل
لإمساك بكِ؟! وماذا يحدث لمصداقية نصك إذا كتبتيه تحت ضغط هؤلاء البصاصين؟!
إحدانا قالت:
أتعرفن؟ بداخلي مخزون لعشرات الروايات والقصص.. بل ولدي في أدراجي مخطوطات لبعضها.. أكتبها حين تتملكني الرغبة العارمة في كتابتها ولا أقوى على كتمانها، لكنني أعرف أنني.. غالبا.. لن أكملها، وإن فعلت.. قد لا أجرؤ على نشرها.
نسألها: ماذا عساه قد يمنعك من كتابتها أو نشرها؟
تضحك ثم تتنهد ثم تسكت قليلا.. لتسمح للأخريات بالاستعداد للتحسر:
اكتبها؟! كتب قصصي ورواياتي ثم أنشرها؟ ويقرؤها زوجي؟ وإخوتي؟ وأولادي.. الآن أو حين يكبرون؟ وأصدقائي؟ وزملائي في العمل؟ وأقربائي؟ وأصدقاء أولادي وأصدقاء زوجي وجيراني و… يا إلهي! كيف سأواجه كل هؤلاء؟! اتخيل أحدهم وهو يمسك بالكتاب متلصصا ليفتش عني بين دفتيه.. كل شخصية في الرواية عاشت قصة عشق سيظنني هذه العاشقة! ويستعد لإدانتي على \”خطيئة\” حب أخفيته عنه!.. كل شخصية خانت.. كل شخصية أجرمت.. ضعفت باعت غدرت سرقت.. سيحاسبني الجميع على كل خطايا بطلاتي، كل منهم حسب درجة قرابته مني سوف يحوّر واقعة ما في كتابي معتبرا أنه المقصود.. سأفقد هدوء علاقاتي بمن يحيطون بي.. وتسوء علاقتي بالكثيرين، اتخيل نظراتهم لي بعد قراءة روايتي الأولى.. اتخيل أحكامهم، اتخيل صدمتهم في صورة \”المثقفة الوقورة\” التي فرضنها عليّ لعقودٍ متتاليات! ارتعد وأؤثر السلامة، بل قد أتعرض للإيذاء حتى من القراء الأغراب عني، فربما يكفرني البعض وقد يقتلني أحدهم أو يحرض على قتلي..
قالت أخرى:
– لكن كاتبات عربيات كثيرات كتبن مئات الروايات والقصص وغـُصنَ في أعماق المرأة والرجل وأغترفن منها الكثير.. ونشرن كتبهن دون خوف، ومن المتوقع أن ذواتهن تسللت إلى تلك الروايات ومع ذلك لم يخفن، أحلام مستغانمي مثلا.. لها رواية واحدة اسمها \”ذاكرة الجسد\”، لكن كل رواياتها تقريبا تدور حول نفس الفكرة، شبق المرأة! ولم يُدنها أحد، وأخريات كتبن عن شخصياتٍ لنساء كن قاتلات أو ملحدات أو خائنات لأوطانهن، أو كتبن باستفاضة عن بطلات اعتبرن أجسادهن ملكا لهن وحدهن دون العائلة.. وتصرفن فيها كما شئن، أنت فقط مستسلمة لوسواس الحساب المجتمعي، ثم أنك لك زوج مثقف واعٍ.. مستنير، وهذه صفة في معظم المحيطين بك فمم تخشين؟! هل مستغانمي خشيت أحدا حين حوّلت شبق المرأة إلى كلمات تقرأ؟!
ردت الأولى مبتسمة:
وما أدراكِ عن معاناتها في محيطها؟! ربما هي بشكل استثنائي متحررة من قبضة مجتمعها.. حدثيني عني وعنك هنا،
قالت أخرى: لكن \”محاكم التفتيش\” تلك يتعرض لها الكتاب الرجال أيضا.. فكما وُصمت نوال السعداوي بالإلحاد والكُفر.. بسبب بعض كتاباتها البحثية عن الآلهة القديمة والطقوس الدينية، اضطهد نصر حامد أبو زيد مثلا وتم تكفيره، ومازال كرم صابر مسجونا بسبب رواية!
قالت: لكنني أتكلم عن محيط الكاتبة القريب، دائرتها الاجتماعية، أنا مازلت أخشى مواجهتهم بمخزوني القصصي.. سأنتظر.. حتى يكون لديهم استعداد لتقبل \”حق\” الكاتبة في كسر الحدود، أو انتظر حتى.. ازداد أنا جرأة! وحتى ذلك الحين أظن معظم الكاتبات العربيات مازلن يبذلن جهدا خرافيا.. كي تتفرق الأسهم المتطايرة نحو الكاتبة منهن.. حين يقرؤها الآخرون!
وحين جاء دوري.. قلبت شفتي وقلت: طبعا بالنسبة لي: الكتابة لن تكون إبداعية إذا كانت تتحسب لردود الفعل المحافظة، كما لا يوجد في الأدب شيء يسمى مثلا \”الأدب النظيف\” مثل مصطلح السينما النظيفة! الذي أراد نشره وتعميمه بعض الرجعيين المسكونين بهواجس الأسلاف.. في فترة غبراء في تاريخ السينما المصرية! الأدب الحقيقي أو السينما أو أي حقل إبداعي آخر.. لا يقبل مسطرة المعايير الأخلاقية المحافظة، وهنا الكاتب أو الكاتبة يحتاجان إلى التحليق وكسر القيود وتخطي الحدود.. فتلك في الحقيقة هي.. أجنحة الروح الحية للكتابة.
وإذا كان التيار الثقافي السائد في المجتمع مازال لا يستسيغ نصا مُحلقا من الكاتبة بينما يقبل مثله من كاتب.. فهذا لا ينبغي أن يعيق الكاتبة.. بل لعله محفز على تحدي هذا التيار الثقافي المحافظ! سواء كان موجودا بسهامه في دائرتها المحيطة مباشرة.. أو بين قرائها في مدى واسع.
أما عني شخصيا.. فأنا غالبا.. لا أكترث! أو لا أريد أن أكترث.. من الجميل أيضا أن يشعر المرء أنه يواجه غباء التسلط المجتمعي ويتحداه! حتى لو كان أولادي أو أصدقائي أو جيراني أو إخوتي أو زوجي.. يريدونني أن أكتب شيئا لا يمس وضعهم الاجتماعي.. ولا يعرضهم لنظرة تساؤل في عيون أصدقائهم! أنا أيضا لدي مخزون من شخصيات قابلتها عبر السنين من الرجال والنساء.. واختزنتها لأكتبها ذات يوم.. سأكتبها كما رأيتها.. في شبقها وضعفها وفي نزق العشق والهوى وفي الحقد والتسامح وفي الوضاعة والتسامي.. وفي أنانيتها الشديدة كما في تضحياتها التي لا يحس بها أحد.. أريد أن أٌقول لمجتمعي المسكون بهواجس الأسلاف: أنا كاتبة لا تهتم بتحفظاتكم… نعم نعم.. لا أكترث!
واحدة من تلك الشخصيات كانت ممرضة في الحي الشعبي الذي نشأت به في الإسكندرية، بالطبع يمكن أن أعطها اسما غير حقيقي إنما.. كانت تلك الفتاة الفقيرة تسكن ببيت قريب من بيتنا، وكانت الأسر في الحي تستدعها من وقت لآخر.. لأجل الحُقن أو تطهير الجروح أو دواعٍ تمريضية أخرى، كانت طويلة رشيقة مشدودة القوام.. نصف جميلة.. وكانت أمي وخالاتي لا يرتحن لها، ويقلن كلمة كنت لا افهمها حينها.. صباح المايعة! ومن حكايات الأم والخالات التي لا يقلنها أمام الطفلة.. لكن الطفلة بالطبع تتنصت خلسة.. وتستمع لكلام تشعر أنه مثير وأنه قليل الأدب.. وإن كانت لا تفهمه وقتها، اختزنت حكايات صباح
\”صباح دايرة مع كل شبان الحتة، وعند خطيبها بالذات.. عاملة الخضرة الشريفة! شفتي الواد يا حبة عين أمه؟! فاكرها ملاك وميعرفش إن الحي كله بصم عليها إلا هو يا ولداه!\”
كتبت قصة \”صباح المايعة\”، ونشرتها ذات يوم في عدد من مجلة كانت وقتها تنشر ما يُسمى \”أدب الأقاليم\”.. ذكروني أكتب لكم عن هذا المصطلح العنصري ذات يوم!
وكان بالقصة بعض مما سمعت الطفلة أمها وخالاتها يقلنه من \”كلام كبير عيب\”! لكن زوجي بالطبع رجل مستنير.. وهو عادة.. وتلك شهادة له.. يتلهف على قراءة ما أكتب.. مقالا كان أو نصا أدبيا، ودائما يثن على كتابتي، ويقول إنني كاتبته المفضلة وإنه قارئي الأول.. زوجي والحمد لله.. مستنير.
كنت اتناول قهوة الصباح حين أنهى قراءة قصتي القصيرة.. وضع المجلة جانبا وقال لي في هدوء المستنيرين: وصباح دي قابلتيها فين بقى؟!
لم أكترث!
howayda5@gmail.com