\”إيه الصوت الجامد ده. هما بيعملو إيه؟ *صوت طلقة*. مات. مات. مات. ليه يا حيـ**ن. ليه يا ولاد الكلـ*. حسبي الله ونعم الوكيل فيكو\”
هكذا هتفت وتساءلت تلك السيدة السكندرية في عصر 28 يناير وهي تشاهد وتوثق عملية قنص شاب سكندري أعزل وقف أمام قوات الأمن فاتحًا سترته، فيما صار بعد ذلك أحد أهم الفيديوهات الأيقونية لثورة يناير.
لربما لم يكن هذا الشاب المجهول هو الأشجع على الإطلاق، في ظني أنه اعتقد أنه حتى لن يُخدش، بل فضل الوقوف متحديًا حتى يرجع لأصحابه بالمساء فخورًا بأنه \”ماجريش قدام الداخلية\”. المشكلة أنه لم يرجع.
تظل قصص شهداء الأيام الأولى للثورة هي الأقرب إلى القلب، والأكثر إيلامًا له أيضًا، تقول الإحصائيات إن 1022 روحًا قد أزهقت خلال أيام الثورة، جلهم في الخمسة أيام الأولى، ومعظمهم برصاص الشرطة. إذا أضفنا عدد المفقودين، سيصل العدد إلى قرابة الثلاثة آلاف، هذا في دولة يغيب عنها قواعد التوثيق السليم، ناهيك عن من أجبرت السلطات أهلهم على دفنهم قسرًا تحت أسباب وفاة أخرى. للمقارنة: عدد شهداء مصر في قرابة الثلاثة أسابيع من حرب أكتوبر كان فوق الخمسة آلاف بقليل.
مرت الأيام ورأينا دماءً كثيرة تسيل، ومع مرور الوقت أصاب التبلد أحاسيس معظمنا فصار الضحايا أرقامًا إحصائية وصار جل اهتمامنا هو التأكد من أننا لا نعرف أحدًا من هؤلاء الضحايا بشكل شخصي. برغم هذا ظل شهداء يناير دائمًا في مكانة أخرى، أعلى وأسمى، حتى أشد المعادين لثورة الخامس والعشرين من يناير يقومون بتوخي الحذر عند الحديث عن من سقطوا أثناء الثورة. يقول الكثيرون إن هذا مرتبط برومانسيات الثورة، أو مرتبط بطبقة اجتماعية معينة انتمى لها من استشهدوا في الأيام الأولى (وهي مغالطة من الأساس)، أو ربما مرتبط بانتفاع من هم في السلطة الآن بتضحيات هؤلاء.
في الحقيقة إن ما ميز هذا الشاب السكندري وباقي من سقطوا في المنشية وبني سويف وميادين الأربعين والشون والتحرير وغيرهم، أنهم \”ماكانوش مديين خوانة\”، هم لم يدركوا ما هم مقبلون عليه حتى تلك اللحظة التي اخترق فيها الرصاص صدورهم أو مرت فيه المدرعة على أجسادهم، سقط بعدهم الكثير ولكنهم كانوا يعلمون بشكل أو بآخر عاقبة تصدرهم للمشهد في محمد محمود أو في رمسيس أو في رابعة العدوية، كل من سقط بعد ذلك كان يملك قدرًا من الشجاعة أو الحماس أو حتى التهور، والأهم أنه إمتلك القدرة على إتخاذ قرار بُني على معلومات ومواقف وتجارب سابقة، وبالتالي ارتأينا أن إستشهادهم لم يكن صادمًا بقدر ما كان محزنًا، من سقط بعد يناير إحتمل ولو جزء من عاقبة قراره.
أما أنتم يا من غادرتمونا في يناير، فحمّلتم من بقي بعدكم المسؤولية النفسية والأخلاقية بجملتها، كنتم ببساطة مجموعة من الناس العادية تمامًا ممن قرروا أن يعبروا عن آرائهم ويختبروا فكرة الحراك الشعبي لأول مرة دون أن تعلموا أنها ستكون أيضًا الأخيرة. كونكم أشخاصا عاديين وواقع أنكم أُخذتم بكامل الغدر هو ما طالما ميز ورودكم اللي فتحت في جناين مصر. كونكم عاديين ولستم أبطالا خارقين، هو ما استدعى قطاعات أعرض من الشعب المصري للإنضمام إلى محيط الثورة، ملامح براءتكم المغتالة هي ما جعلت حلم إكمال الـ١٨ يوم ممكنًا.
نتحسر كثيرًا على ما آلت إليه الأمور، نسمع كثيرًا عبارات مثل: \”مش حرام اللي راحوا دول\”، أو \”يا حسرة أهاليهم والله\”، وهي تعليقات كما نعلم في قرارة أنفسنا أنها تنبع من حالة الإحباط أكثر من أنها كفرٌ بما قمنا به منذ ست سنوات، يظن البعض الآخر أن رحيلكم كان سدى، وأظن ظن اليقين أنه لم يكن أبدًا كذلك، أصواتكم التي صدحت بالحق ترددت أصداؤها في بنغازي وريف درعا ودروب صنعاء لتبدأ سلسلة تفاعلية تغير وجه العالم بشكل لا نعلم حقيقة مداه حتى الآن، نكأتم صديد الطائفية، كشفتم الإسلام السياسي شعبيًا، أجبرتم الجنرالات الغامضين على التصدر للمشهد وكشف حقيقة هزالهم وزيف وطنيتهم. ستمر أعوام طوال قبل أن يتبدى لأي أحد منا كامل مردود ما فعلتموه في شتاء 2011، وحتى ذلك اليوم سيكون من حقنا أن نحلم حتى وإن غلفنا حلمنا بغلاف من التهكم يقي شر الاحباطات المتتالية.
سلامٌ على اللي مادوش خوانة.
سلامٌ عليكم يوم ولدتم. ويوم ارتحلتم. ويوم تصير أحلامكم واقعًا ولو بعد حين.