بعد كل هذه السنوات، لا أعرف لماذا تقفز صورتها إلى عيني بين الحين والحين، تفاجئني ذاكرتي بها وتستدعيها وصوتها أحياناً بلا سياق، رغم ضبابية المشهد، لازلت أذكر ملامح وجهها: التقاطيع \”المسمسمة\” وتلك السمرة الطيبة المحبوبة المميزة لأقاصي الجنوب المصري، لا أعرف لماذا حين أتذكر وجهها، دائما ما أرى في خلفية الصورة النيل وأضواء الأوبرا من ورائه، وتصاحب المشهد موسيقى \”يا بنت يا أم المريلة كحلي\”.
لم أرها منذ ما يقرب من ثلاثين عاماً، وبالتحديد حين كنت طفلا في السابعة من عمره في (تالتة تاني) في أحد المدارس الإنجيلية بالقاهرة، وكانت هي ربما في نصف العشرينيات الأول من عمرها، لا أذكر هل كنت أعرف اسمها كاملا أم لا، أذكر الآن فقط أنها \”ميس منى\” المُدرسة المسئولة عن فصلي الذي كنت أجلس في (أول دكة) من صفه الأوسط – ربما لقصرى – دائما قريبا منها متابعا لها.
لا أذكر شيئا نهائيا مما تعلمته منها في تلك السن الصغيرة، كل ما أذكره هو هذا الحب الذي يعطي كثيرا رغم فروق – أفهمها الآن – في اللون والجنس والدين، ويملأ دنيتي الصغيرة في المدرسة التي لم أكن أحبها كثيرا، دفئا لا أعرف مصدره.
استطيع الآن بعد كل هذه السنوات أن أفسر- ربما متخيلا- لماذا أحببتها كثيرا –حينذاك- فالطفل الصغير ليس لديه أسبابا لتفسير الحب – قد يكون الطفل داخلنا فقط هو من يفهمه حقا- اعرف الآن أنها كانت صاحبة قلب ينثر حباً بلون ورائحة الفل في ذلك السياق المدرسي المقبض، وفي عينيها \”ننى فيه حنان الأم\” يزيل قسوة جدران المدرسة الرمادية، حين كبرت قليلا وتركت هي المدرسة، وحين تأتي احتفالات الأم المثالية في عيد الأم في التلفزيون كل عام، كنت أنتظر أن أراها، لا أظنها كانت أما حينذاك، لكنها ارتبطت دائما في ذهني باللون الأسمر والقلب الأبيض واحتفالات الأم المثالية، أذكر فرحتي وزهوي الشديدين حين عدت للمنزل ليخبرنا جيراننا إنها أتت لتزورني لتغيبي عن المدرسة أياما، لم تكن تعرف فيها أنني مصاب بـ \”الجديري المائي\”.
يبدو أن من يهبنا حبا في سنوات البراءة حين يكون وعينا وفهمنا للحب نقيا بريئا صادقا حقيقيا، يبقى دائما ممتلكا لركن ما في قلوبنا، رغم بعد الصورة والزمن.
فكرت الآن أن أبعث لها رسالة في العيد، ربما كما يضع البعض رسالة في زجاجة ويلقونها في البحر.. من يدري؟ ربما تكون هي – أو أحد يعرفها- صاحبة واحدة من هذه الآلاف من الزيارات لهذا الموقع.
اتمنى أنها ماتزال تذكر ذلك الطفل الصغير الذي أعطته يوما ما حبا واهتماما وحنانا وحماية، مازال الآن بعد عقود ثلاثة يذكرهم ويذكرها.
سيدتي وأستاذتي الجميلة \”ميس منى\”: أرسل لك كل حبي واحترامي واشتياقي وشكري، لدفء صنعتيه، وعرفاني لنبتة محبة صغيرة غرستها يوما في قلب صغير.
أتمنى إن كانت الحياة كريمة معك، وسمحت أن ترين يوما، ما ساهمت يوما في إنباته، أن تحبيه كما أحببتيه صغيرا.
سيدتي الجليلة.. أشكركِ.